والتقدم له ، كتواضع التلميذ لمعلمه ، وذلك تشريف من الله سبحانه ، ودليل قاطع على ثبوت إرادته ، يختص برحمته من عباده من يشاء ، فلما نفخ فيه الروح الأنزه ، والسر الحاكم المتأله ، عرفت الملائكة حينئذ قدر هذا البيت الأعلى ، والمحل الأشرف الأسنى ، فأوقفهم الحق بين يديه طالبين ، وأمرهم فوقعوا له ساجدين.
(فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ) (٧٣)
ـ تحقيق ـ اعلم أن الأمر حق وخلق ، وأنه وجود محض لم يزل ولا يزال ، وإمكان محض لم يزل ولا يزال ، وعدم محض لم يزل ولا يزال ، فالوجود المحض لا يقبل العدم أزلا وأبدا ، والعدم المحض لا يقبل الوجود أزلا وأبدا ، والإمكان المحض يقبل الوجود لسبب ، ويقبل العدم لسبب أزلا وأبدا ، فالوجود المحض هو الله ليس غيره ، والعدم المحض هو المحال وجوده ليس غيره ، والإمكان المحض هو العالم ليس غيره ، ومرتبته بين الوجود المحض والعدم المحض ، فبما ينظر منه إلى العدم يقبل العدم ، وبما ينظر منه إلى الوجود يقبل الوجود ، فمنه ظلمة وهو الطبيعة ، ومنه نور وهو النفس الرحماني الذي يعطي الوجود لهذا الممكن ؛ فالعالم حامل محمول ، فبما هو حامل هو صورة وجسم وفاعل ، وبما هو محمول هو روح ومعنى ومنفعل ، فما من صورة محسوسة أو خيالية أو معنوية إلا ولها تسوية من جانب الحق وتعديل ، كما يليق بها وبمقامها وحالها ، وذلك قبل التركيب ، أعني اجتماعها مع المحمول الذي تحمله ، فإذا سواها الرب بما شاء ـ من قول أو يد أو يدان أو أيد ، وما ثمّ سوى هذه الأربعة ، لأن الوجود على التربيع قام ـ وعدله ، وهو التهيؤ والاستعداد للتركيب والحمل ، تسلمه الرحمن فوجه عليه نفسه وهو روح الحق في قوله (فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) وهو عين هذا النفس قبلته تلك الصورة ، واختلف قبول الصور بحسب الاستعداد ، فإذا كانت الصورة عنصرية واشتعلت فتيلتها بذلك النفس ، سميت حيوانا عند ذلك الاشتعال ، وإن لم يظهر لها اشتعال وظهر لها في العين حركة وهي عنصرية سميت نباتا ، وإن لم يظهر لها اشتعال ولا حركة أعني في الحس وهي عنصرية سميت معدنا وجمادا. وقد عرفنا الحق أن سبب الحياة في صور المولدات إنما هو النفخ الإلهي ، وهو النفس الذي أحيى الله به الإيمان فأظهره ، قال صلىاللهعليهوسلم : [إن نفس الرحمن يأتيني من قبل اليمن] فحييت بذلك