ماء مستحيل من أبخرة كثيفة ، قد أزال التقطير ما كان تعلق به من الكثافة ، والماء الآخر ماء لم يبلغ من اللطافة هذا المبلغ ، وهو ماء العيون والأنهار ، فإنه ينبع من الأحجار ممتزجا بحسب البقعة التي ينبع بها ويجري عليها ، ويختلف طعمه فمنه عذب فرات ومنه ملح أجاج ومنه مر زعاف ، وماء الغيث على حالة واحدة ، ماء نمير خالص سلسال سائغ شرابه.
(أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (٢٢)
يسمى الإيمان ـ الذي هو نور ـ بحكم سرايته في الظاهر وتليينه إياه وانقياد الظاهر له ولأحكامه إسلاما ، قال تعالى : (أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ) فالصدر حقيقة ما يصلح أن يصدر منه الأحكام وتتعين منه الآثار ، كما يقال لمن يصدر منه الأمر والنهي من الأناسي أنه صدر ؛ ولما يتعيّن منه حكم اليمنة واليسرى والأقصى والأدنى صدر الدار ، وكذلك يسمى نحر الإنسان صدرا لأنه يتعين به حكم يمنته ويسرته ، فيسمى ظاهر الجوهر الإنساني المتعلق بروحه الحيوانية صدرا ، باعتبار ما يصدر من الأحكام الروحانية كالعلوم والأخلاق الجميلة المعتدلة ، والأحكام والصفات الجسمانية كالغضب والشهوة والأخلاق المنحرفة الرذيلة بغلبتها عليه ، وشرحه فتحه وفتقه وإخراجه عن تمام أحكام الهوى الشيطانية وظلام الطبيعة الحيوانية ، بعد أن كان هو والروح الحيوانية وجميع أحكامهما وصفاتهما رتقا غير متميز ، بل أحكامه مستورة مغلوبة ممتزجة بأحكامها ، وبهذا الشرح والفتق المذكور تظهر آثاره ، فتظهر النفس لوامة ، أو تغلب على آثارها فتصير مطمئنة ، بعد أن كانت عند غلبة الحيوانية أمارة بالسوء ، فبهذا الشرح والفتق المذكور تقبل سراية نور الإيمان ، فيحس بأن له خالقا ، منه مبدؤه وإليه معاده ومنتهاه ، يلزمه الانقياد لأوامره وزواجره ، حتى يصير بذلك أهلا للرجوع ، فتنقاد النفس وتستسلم ظاهرا وباطنا ، إما رغبة فيه أو فيما عنده ، والإشارة إلى ما قلنا : إن الصدر شرحه معنوي ، ما ورد في حديث المعراج أن جبريل نزل ففرج عن صدري ثم غسله ، ثم جاء بطست ممتلىء حكمة فأفرغه في صدري ، ولما كان الإيمان والحكمة غير محسوسين يكون محلهما معنويا غير