ـ الوجه الأول ـ الملائكة الحافون حول العرش ما لهم سباحة إلا في العماء الذي ظهر فيه العرش ، وهؤلاء الملائكة خلقهم الله تعالى من نور العرش الذي استوى عليه الرحمن ، فإنهم إليه يتوجهون وعليه يعولون ، وحوله يحومون وبه يطوفون ، وحيثما كانوا فإليه يشيرون ، فمتى حدث في الكون حادثة أو نزلت به نازلة ، رفعوا أيدي المسئلة والتضرع إلى جهة عرشه ، يطلبون الشفا ويستعفون عن الخطا ، لأن موجد الكون لا جهة له يشار إليها ، ولا أينية له يقصدونها ، ولا كيفية له يعرفونها ، فلو لم يكن العرش جهة يتوجهون إليه للقيام بخدمته ، ولأداء طاعته ، لضلوا في طلبهم ، فهو سبحانه إنما أوجد العرش إظهارا لقدرته ، لا محلا لذاته ، وأوجد الوجود لا لحاجة إليه ، وإنما هو إظهار لأسمائه وصفاته ـ الوجه الثاني ـ هذا العرش الذي تحف به الملائكة ما هو العرش الذي استوى عليه الرحمن ، فإن الثاني قد عمر الخلاء ، وإنما العرش الذي تحف به الملائكة هو العرش الذي يأتي الله به للفصل والقضاء يوم القيامة ، ولذلك تمم الآية بقوله (وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) عند الفراغ من القضاء ، فذلك العرش يوم القيامة تحمله الثمانية الأملاك ، وذلك بأرض المحشر ونسبة العرش إلى تلك الأرض نسبة الجنة إلى عرض الحائط في قبلة رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، من غير أن يوسع الضيق أو يضيق الواسع ، (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ) اعلم أن الحكم للرحمة ، ويوم القيامة يوم العدل في القضاء ، وإنما تأتي الرحمة في القيامة ليشهد الأمر ، حتى إذا انته حكم العدل وانقضت مدته في المحكوم عليه ، تولت الرحمة الحكم فيه إلى غير نهاية (وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) ـ إشارة ـ من قام باللام وحده ، ووقف على ما حصل عنده ، وجاوزه إلى مطلعه وحده ، ولم ير مثله ولا ضده ، وملك وعيده ووعده ، وأمن قربه وبعده ، وعرف أنه لا يأتي أحد بعده ، قال : الحمد لله الذي صدقنا وعده ـ شرح هذه الإشارة ـ قوله «من قام باللام وحده» يريد أن اللام للفناء ، فيكون القائم الحق لا هو ، لأنك تقول «الحمد لله» فجعلته حامدا لنفسه ، قائما بحمده ، وإذا قلت «الحمد بالله» فقد جعلت الباء للاستعانة ، فاللام له ، والباء لنا ، ولذلك قال : العلماء لي والعارفون بي (١) ـ قوله «وو قف على ما حصل عنده» يعني تميزت له نفسه بما كشف الحق له من المراتب ، قوله «ولم ير مثله ولا ضده» يعني لشغله بربه ، أو بموازنة نفسه مع ربه فيما
__________________
(١) راجع كتابنا شرح كلمات الصوفية ، «أبو العباس بن العريف الصنهاجي» ص ٣١٠.