الأكل إنما هو عين النعيم مما يكون به الغذاء للجسم ، فأهل الجنة يأكلون ويشربون عن شهوة لالتذاذ لا عن جوع ، والصبوح شرب الغداة ، والغبوق شرب العشى ، وأما أهل النار فقد وصفهم الله بالأكل والشرب في النار عن جوع وعطش.
(تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا) (٦٣)
لأهل السعادة ثلاث جنات : جنة أعمال ، وجنة اختصاص ، وجنة ميراث ، فينزل أهل الجنة في الجنة على قدر أعمالهم ، ولهم جنات الميراث وهي التي كانت لأهل النار لو دخلوا الجنة ، ولهم جنات الاختصاص. يقول الله تعالى (تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا) فهذه الجنة التي حصلت لهم بطريق الورث من أهل النار الذين هم أهلها ، إذ لم يكن في علم الله أن يدخلوها ، ولم يقل في أهل النار إنهم يرثون من النار أماكن أهل الجنة لو دخلوا النار ، وهذا من سبق الرحمة بعموم فضله سبحانه ، فما نزل من نزل في النار من أهلها إلا بأعمالهم ، ولهذا يبقى فيها أماكن خالية ، وهي الأماكن التي لو دخلها أهل الجنة عمروها ، فيخلق الله خلقا يعمرونها ، على مزاج لو دخلوا به الجنة تعذبوا ، وهو قوله صلىاللهعليهوسلم [فيضع الجبار فيها قدمه فتقول : قط قط] أي حسبي حسبي ، فإنه تعالى يقول لها : هل امتلأت ، فتقول : هل من مزيد ، فإنه قال للجنة والنار : لكل واحدة منكما ملؤها ، فما اشترط لهما إلا أن يملأهما خلقا ، وما اشترط عذاب من يملأها بهم ولا نعيمهم ، كما ورد في الخبر أنه يبقى أيضا في الجنة أماكن ما فيها أحد ، فيخلق الله خلقا للنعيم يعمرها بهم ، وهو أن يضع الرحمن فيها قدمه ، وليس ذلك إلا في جنات الاختصاص ، فمن كرمه أنه تعالى ما أنزل أهل النار إلى على قدر أعمالهم خاصة ـ نصيحة ـ لا تحزن على ما يفوتك من جنة الميراث فإنه ما فيها تقصير ، وإنما ينبغي لك أن تحزن على ما يفوتك من جنة الأعمال ، ولا تعتمد إلا على جنة الاختصاص فإنها مثل التوفيق للأعمال الصالحة في هذه الدار ، لا تنال إلا بالعناية لا بالاكتساب.
(وَما نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا) (٦٤)