أنه ما قطع فيما أبصر أنه نار (لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً) فانظر ما أعجب قوة النبوة لأنه وجد الهدى ، وكل خير في السعي على الغير ، والسعي على الأهل من ذلك ، فمشى موسى عليهالسلام في حق أهله ليطلب لهم نارا يصطلون بها ويقضون بها الأمر الذي لا ينقضي إلا بها في العادة ، وما كان عنده خبر بما جاءه ، فأسفرت له عاقبة ذلك الطلب عن كلام ربه ، فكلمه الله في عين حاجته وهي النار في الصورة ، ولم يخطر له عليهالسلام ذلك الأمر بخاطر ، وأي شيء أعظم من هذا؟ وما حصل له إلا في وقت السعي في حق عياله ، ليعلمه بما في قضاء حوائج العائلة من الفضل ، فيزيد حرصا في سعيه في حقهم ، فكان ذلك تنبيها من الحق تعالى على قدر ذلك عند الله تعالى ، وعلى قدرهم لأنهم عبيده على كل حال ، وقد وكّل هذا على القيام بهم.
(فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ يا مُوسى) (١١) وتجلى له الحق في عين حاجته فلم تكن نارا
(إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً) (١٢)
لما خرج موسى عليهالسلام في طلب النار لأهله لما كان فيه من الحنو عليهم ، وقع التجلي له في عين صورة حاجته ، فرأى نارا لأنها مطلوبه فقصدها فناداه ربه منها ، وهو لا علم له بذلك لاستفراغه فيما خرج له (يا مُوسى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ) ولما كان القاعد لا يلبس النعلين وإنما وضعت للماشي فيها ، ومن وصل إلى المنزل خلع نعليه ، قيل لموسى عليهالسلام (فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ) أي قد وصلت المنزل ، فإنه كلمه الله بغير واسطة ، بكلامه سبحانه بلا ترجمان ، وقوله تعالى (فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ) له ظاهر وباطن ، فأما ظاهره فالحكمة في الأمر بخلع النعل الظاهر ، أن سير الأنبياء في الأرض كان سير اعتبار وادكار ونظر لما أودع فيها من سر البدء والإعادة ، بمقتضى قوله تعالى (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ) وكان المراد التعرف لموسى بسر الإعادة وقيام الساعة ، ولهذا كانت مناجاته من الجانب الغربي ، لأن من أكبر آيات الساعة طلوع الشمس من مغربها ، وقيل له في أول مناجاته (إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري إن الساعة آتية) ومن المعلوم أن بعث الخلائق وحشرهم يكون من الأرض المقدسة ، وقد فسر قوله تعالى (وَاسْتَمِعْ يَوْمَ