كذلك ، لا يقال : الغنى أفضل من الفقر أو الفقر أفضل من الغنى ، فالفقر صفة الخلق ، والغنى صفة الحق ، والمفاضلة لا تصح إلا فيمن يجمعهما جنس واحد ، ولا جامع بين الحق والخلق ، فلا مفاضلة بين الغنى والفقر ، قال الله تعالى في الغنى (فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) وقال في الفقر (يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) فمن قال بعد علمه بهذا الغنى أفضل من الفقر ، أم الفقر أفضل ، كان كمن قال : من أفضل الله أم الخلق؟ وكفى بهذا جهلا من قائله ، وأما الذي بأيدي الناس الذي يسمونه غنى ، فكيف يكون غنى وأنت فقير إليه غير مستغن في غناك عن غناك؟ فغناك عين فقرك ، وهذا على الحقيقة لا يسمى غنى ، فكيف تقع المفاضلة ما بين ما له وجود حقيقي وهو الفقر ، وبين ما ليس له وجود حقيقي وهو غناك؟ وإذا سمي الإنسان غنيا فهو وصف عرضي ، والفقر له ذاتي ، فطلب المفاضلة جهل بين الوصف الحقيقي والإضافي العرضي ـ رقيقة ـ اعلم أن العقل من جملة الأشياء ، وقد أعطاه الله خلقه ، ولهذا ينزهه العقل ويرفع المناسبة من جميع الوجوه ، ويجيء الحق فيصدقه في ذلك ب (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) يقول لنا : صدق العقل فإنه أعطى ما في قوّته ، لا يعلم غير ذلك فإني أعطيت كل شيء خلقه ، وتمم الحق الآية بقوله (ثُمَّ هَدى) أي بيّن ، فبين سبحانه أمرا لم يعطه العقل ولا قوة من القوى ، فذكر لنفسه أحكاما هو عليها ، لا يقبلها العقل إلا إيمانا أو بتأويل يردها تحت إحاطته ، لا بد من ذلك ، وطريقة السلامة لمن لم يكن على بصيرة من الله ، أن لا يتأول ، ويسلّم ذلك إلى الله على علمه فيه ، هذه طريقة النجاة. ثم نعود إلى قول موسى عليهالسلام (رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) هذا من القول اللين ، فإنه دخل تحته كل شيء ادعاه فرعون ، فأعطاه الله خلقه ، فكأن في كلامهما جواب فرعون لهما ، إذ كان ما جاء به فرعون خلق الله ، ثم زادهما في السؤال ليزيد في الدلالة.
(قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى (٥١) قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى) (٥٢)
(وَلا يَنْسى) مثل ما نسيت أنت حتى ذكرناك فتذكرت ، فلو كنت إلها ما نسيت ،