بحسب قبول الأمزجة البدنية وما هي عليه من الاستعداد ، فيكون المضر لبعض الأمزجة عين ما هو نافع لمزاج غيرها ، لذلك قال (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى) وهم أولو نهى بما زجرهم به في خطابه ، وهم الذين يوافقون الحق فيما أمر به ونهى.
(مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى) (٥٥)
(مِنْها) أي هذه الأرض (خَلَقْناكُمْ) فالأرض أم للإنسان فالغالب علينا عنصر التراب ، وإن كنا على جميع الطبائع كلها (وَفِيها نُعِيدُكُمْ) فرددناه إلى أمه كي تقر عينها ، لذلك تضغطه عند ما يدفن فيها مثل عناق الأم وضمها ولدها إذا قدم عليها من سفر ، فهو ضم محبة (وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى) يعني يوم البعث ـ الوجه الثاني ـ (مِنْها خَلَقْناكُمْ) أي هذه الأرض (وَفِيها نُعِيدُكُمْ) يعني في النشأة الأخرى أيضا كما خلقنا فيها (وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى) يخرجنا إخراجا لمشاهدته ، كما أنشأنا منها وأخرجنا لعبادته ، فخلق أرواحنا في أرض أبداننا في الدنيا لعبادته ، وأسكننا أرض أبداننا في الآخرة لمشاهدته إن كنا سعداء ، كما آمنا به في النشأة الأولى لما اعتنى الله بنا ، والحال مثل الحال سواء في تقسيم الخلق في ذلك ، وكذلك يكونون غدا ، والموت بين النشأتين حالة برزخية تعمر الأرواح فيها أجسادا برزخية خيالية ، مثل ما أعمرتها في النوم ، وهي أجساد متولدة عن هذه الأجسام الترابية ، فإن الخيال قوة من قواها ، فما برحت أرواحنا منها أو مما كان منها ، ومن مات فقد قامت قيامته ، وهي القيامة الجزئية وهو قوله (وَفِيها نُعِيدُكُمْ) فإن مدة البرزخ هي للنشأة الآخرة بمنزلة حمل المرأة للجنين في بطنها ، ينشئه الله نشأ بعد نشء ، فتختلف عليه أطوار النشء إلى أن يولد يوم القيامة ، فلهذا قيل في الميت إنه إذا مات قامت قيامته ، أي ابتدأ فيه ظهور نشأة الأخرى في البرزخ إلى يوم البعث من البرزخ ، كما يبعث من البطن إلى الأرض بالولادة ، فتدبير نشأة بدنه في الأرض زمان كونه في البرزخ ليسويه ويعدله على غير مثال سبق مما ينبغي للدار الآخرة ، فيعبد الله فيها ، أعني في أرض نشأته الأخراوية عبادة ذاتية لا عبادة تكليف ، فالعاقل إذا شاهد التراب تذكر ما خلق منه ، وذكرته الأرض بنشأته وبإهانته وذلته ، فإن الأرض جعلها الله ذلولا مبالغة في الذلة ، ولا أذل مما يطأه الأذلاء ، ونحن نطأها وجميع الخلائق ونحن عبيد أذلاء.