مكيدة طبيعية يعضدها قوة كيدية روحانية ، وأما العامة فنسبوا ما جاء به موسى إلى أنه من قبيل ما جاءت به السحرة ، إلا أنه أقوى منهم وأعلم بالسحر بالتلقف الذي ظهر من حية عصا موسى ، فقالوا : هذا سحر عظيم ، ولم تكن آية موسى عند السحرة إلا خوفه وأخذ صور الحيات من الحبال والعصي خاصة ، فمثل هذا خارج عن قوة النفس ، فتخيل السحرة أن موسى خاف من الحيات ، وكان موسى في نفس الأمر غير خائف من الحيات لما تقدم له في ذلك من الله في الفعل الأول حين قال له (خُذْها وَلا تَخَفْ) فنهاه عن الخوف منها ، وأعلمه أن ذلك آية له ، فكان خوفه الثاني على الناس لئلا يلتبس عليهم الدليل والشبهة ، والسحرة تظن أنه خاف من الحيات ، فلبّس الله عليهم خوفه كما لبّسوا على الناس ، لأن السحرة لو علمت أن خوف موسى من الغلبة بالحجة لما سارعت إلى الإيمان ، ثم أنه كان لحية موسى التلقف ولم يكن لحياتهم تلقف ولا أثر ، لأنها حبال وعصي في نفس الأمر ، فلما علمت السحرة قدر ما جاء به موسى من قوة الحجة ، وأنه خارج عما جاؤوا به ، وتحققت شفوف ما جاء به على ما جاؤوا به ، ورأوا عصاه حية حقيقة ، علموا عند ذلك أنه أمر غيب من الله الذي يدعوهم إلى الإيمان به ، وما عنده من علم السحر خبر ، لما علمت من خوف موسى أنه لو كان ذلك منه وكان ساحرا ما خاف ، لأنه يعلم ما يجري ، فآية موسى عند السحرة خوفه ، وآيته عند الناس تلقف عصاه ، وعلم السحرة أن أعظم الآيات في هذا الموطن تلقف هذه الصور من أعين الناظرين ، وإبقاء صورة حية عصا موسى في أعينهم ، والحال عندهم واحدة ، فعلموا صدق موسى فيما يدعوهم إليه ، وأن هذا الذي أتى به خارج عن الصور والحيل المعلومة عند السحرة ، فهو أمر إلهي ليس لموسى عليهالسلام فيه تعمل ، فصدّقوا برسالته على بصيرة وآمنت السحرة ـ إشارة لا تفسير ـ (وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ) من ألقى إرادة نفسه في بحر إرادة مولاه وميدانها ، تولاها بلطف حكمته ، وأجرى عليه سابق عنايته ، فأحياها حياة السعادة والتمليك ، فامتحق كل زور وباطل ، وخنس من دلاه بغرور ، وردّت إليه بعد ما ألقاها ، وحصل لها الشرف الكامل على أبناء جنسها ، فتلك النفس المطمئنة الراضية المرضية ، الداخلة في عباد الاختصاص ، وفي الفراديس العلية جوار الرحمن.
(فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى) (٧٠)