بدأ بالجمع الذي هو كل شيء. واعلم أن الله أنزل الكتاب فرقانا في ليلة القدر ليلة النصف من شعبان ، وأنزله قرآنا في شهر رمضان ، كل ذلك إلى السماء الدنيا ، ومن هناك نزل في ثلاث وعشرين سنة فرقانا نجوما ذا آيات وسور ، لتعلم المنازل وتتبين المراتب ، فمن نزوله إلى الأرض في شعبان يتلى فرقانا ، ومن نزوله في شهر رمضان يتلى قرآنا ، والليلة المباركة هي ليلة القدر الموافقة ليلة النصف من شعبان المخصوصة بالآجال ، وكما سبق أن ذكرنا في تفسير قوله تعالى (وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ) أن الوحي وحيان : وحي القرآن وهو الأول ، ووحي الفرقان ، فإنه تعالى أشار في هذه الآية بقوله : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ) ولم يقل بعضه ، ثم قال.
(فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) (٤)
وهذا هو وحي الفرقان ، فالأمر ينزل إليها عينا واحدة ، ثم يفرق فيها بحسب ما يعطيه من التفاصيل ، كما تقول في الكلام إنه واحد من كونه كلاما ، ثم يفرق في المتكلم به ـ بحسب الأحوال الذي يتكلم به ـ إلى خبر واستخبار وتقرير وتهديد وأمر ونهي ، وغير ذلك من الكلام مع وحدانيته ، فقوله تعالى (فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) أي محكم ، فتظهر الحكم ـ في التوحيد الآتي ـ التي جاءت بها الرسل الإلهيون ونطقت بها الكتب الإلهية ، رحمة بعباد الله عامة وخاصة ، فكل موجود يدركها ، وما كل موجود يعلم من أين صدرت ، فهي عامة الحكم خاصة العلم ، إذ كانت الاستعدادات من القوابل مختلفة ـ إشارة ـ (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) لأهل السعة والمحققين والمعتبرين ، فإن أكثر الفتح عند هؤلاء هو أن يكشف للعبد عن نسخة القرآن في عالم الإنسان ، فعلى هذا الاعتبار قول الله تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) و (فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ) فهي في التفسير الظاهر ليلة القدر ، وفي اعتبار هؤلاء ، هي نفس المؤمن إذا صفت وزكت ، ولهذا قال : (فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) وقلبه في الاعتبار السماء الدنيا التي نزل إليها القرآن مجموعا ، فعاد فرقانا بحسب المخاطبين ، فالإنسان الكامل كالأنبياء ومن تحقق بإرثهم ، هو القرآن العزيز على الحقيقة ، نزل من حضرة نفسه إلى حضرة موجده ، وهي الليلة المباركة ، لكونها غيبا ، والسماء الدنيا حجاب العزة الأحمى الأدنى إليه ، ثم جعل هناك فرقانا ، فنزل نجوما بحسب الحقائق الإلهية ،