(وَلَهُ الْكِبْرِيَاء فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٣٧)
اعلم أن العالم محصور في علو وسفل ، والعلو والسفل له أمر إضافي نسبي ، فالعالي منه يسمى سماء والأسفل منه يسمى أرضا ، ولا يكون له هاتان النسبتان إلا بأمر وسط يكون بينهما ، ويكون ذلك الأمر في نفسه ذا جهات ، فما أظلّه فهو سماء ، وما أقله فهو أرض له ، وإن شئت قلت في الملأ الأعلى والملأ الأسفل : إنه كل ما تكون من الطبيعة فهو الملأ الأسفل ، وكل ما تولد من النور فهو الملأ الأعلى ، وأكمل العالم من جمع بينهما ، وهو البرزخ الذي بجهاته ميزهما ، أو بجمعيته ميزهما بالعلو والسفل ، والحق تعالى بالنظر إلى نفسه لا يتصف بشيء مما يتصف به وجود العالم ، فإن الله لما نسب الكبرياء الذي له ما جعل محله إلا السموات والأرض ، فقال : (وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ما قال في نفسه ، فالمحل هو الموصوف بالكبرياء الذي لله ، فالعالم إذا نظر إلى نفسه صغيرا ، ورأى موجده منزها عما يليق به ، سمى ربه كبيرا وذا كبرياء ، لما كبر عنده بما له فيه من التأثير والقهر ، فلو لم يكن العالم مؤثرا فيه لله تعالى ما علم أنه صغير ، ولا أن ربه كبير ، وأمثال ذلك من الصفات ، لما رأى العبد أنه قامت به الحاجة والفقر إلى غيره ، احتاج أن يعتقد ويعلم أن الذي استند إليه في فقره له الغنى ، فهو الغني سبحانه في نفس عبده ، وهو بالنظر إلى ذاته معرى عن النظر إلى العالم لا يتصف بالغنى ، لأنه ما ثمّ عن من ، وكذلك إذا نظر العبد إلى ذله ، علم أنه لا يذل لنفسه ، وإنما يذل تحت سلطان غيره ، فسماه عزيزا ، لأنه عزّ الحق في نفس هذا العبد لذله ، فالعبد هو محل الكبرياء والغنى والعظمة والعزة التي لله ، فوصف العبد ربه بما قام به ، فأوجب المعنى حكمه لغير من قام به ، فالحق منزه عن قيام الكبرياء به بحيث أن يكون محلا له ، بل الكبرياء محله الذي عينه الحق له ، وهو السموات والأرض (وَهُوَ) أي هوية الحق (الْعَزِيزُ) أي المنيع لذاته أن تكون محلا لما هي السموات والأرض له محل ، وليس إلا الكبرياء ، فما كبر إلا في نفس العالم ، وهو أجل من أن يقوم به أمر ليس هو ، بل هو الواحد من جميع الوجوه (الْحَكِيمُ) بما رتبه في الخلق ، ومن جملة ما رتبه بعلمه وحكمته أن جعل السموات والأرض محلا لكبريائه ، فكأنه يقول : وله الكبرياء الذي خلقه في نفس السموات والأرض ، حتى يكبروا إلههم به ، وكذلك وقع ،