لمن نظر في توحيد الله من طلب ماهيته وحقيقته ، وهو معرفة ذاته التي ما تعرف ، وحجر التفكر فيها لعظم قدرها ، وعدم المناسبة بينها وبين ما يتوهم أن يكون دليلا عليها ، فلا يتصورها وهم ولا يقيدها عقل ، بل لها الجلال والتعظيم ، واعلم أن هذا هو التوحيد الثاني والثلاثون في القرآن ، وهو توحيد الذكرى ، وهو توحيد الله ، فإن الإنسان لما جبله الله على الغفلات ـ رحمة به ـ فيغفل عن توحيد الله بما يطالعه في كل حين من مشاهدة الأسباب ، التي يظهر التكوين عندها ، وليس ثمة إدراك يشهد به عين وجه الحق في الأسباب التي يكون عنها التكوين ، وهو لاستيلاء الغفلة وهذا الغطاء يتخيل أن التكوين من عين الأسباب ، فإذا جاءته الذكرى ـ على أي وجه ـ علم بمجيئها أنها تدل لذاتها على أنه لا إله إلا الله ، وأن تلك الأسباب لو لا وجه الأمر الإلهي فيها ، أو هي عين الأمر الإلهي ، ما تكوّن عنها شيء أصلا ، فلما كان هذا التوحيد بعد ستر رفعته الذكرى ، أنتج له أن يسأل ستر الله للمؤمنين والمؤمنات ، فقال تعالى : (وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) فهي من منن الله على عبده ، واعلم أن التلفظ بشهادة الرسالة المقرونة بشهادة التوحيد فيه سر إلهي ، وهو أن الإله الواحد الذي جاء بوصفه ونعته الشارع ، ما هو التوحيد الإلهي الذي أدركه العقل ، للصفات التي لا يقبلها توحيد العقل المجرد عن الشرع ، فهذا المعبود ينبغي أن تقرن شهادة الرسول برسالته بشهادة توحيد مرسله ، ولهذا يضاف إليه ـ إشارة وتحقيق ـ الأكابر يلتزمون في الذكر (لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) على غير ما يعطيه النظر العقلي ، أي الوجود هو الله ، والعدم منفي الذات والعين بالنفي الذاتي ، والثابت ثابت الذات والعين بالإثبات الذاتي ، وتوجه النفي على النكرة وهو (إِلهَ) وتوجه الإثبات على المعرفة وهو (اللهُ) وإنما توجه النفي على النكرة وهو (إِلهَ) لأن تحتها كل شيء ، وما من شيء إلا وله نصيب من الألوهة يدعيه ، فلهذا توجه عليه النفي ، لأن الإله من لا يتعين له نصيب ، فله الأنصباء كلها.
(وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ (٢٠) طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ