الفقر الكلي الذي لا يمكن زواله عن الممكن ـ لأن الفقر له وصف ذاتي ـ لا في حال عدم ولا في حال وجود ، فلابد لمن هذه حاله من تخل وفرار عن الأمور الشاغلة له.
(كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (٥٢) أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (٥٣) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنتَ بِمَلُومٍ (٥٤) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) (٥٥)
وذكر من نسي إقراره بربوبيته عند أخذ ميثاقه ، قال بعض السامعين : (سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ) فقال تعالى آمرا : (وَذَكِّرْ) يعني بالعلم من غفل عنه ونسيه (فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) وهم الذين علموا ما ثمّ بنور الإيمان ، ثم إنهم غفلوا فحيل بينهم وبين ما علموه من ذلك ، فإذا ذكروا تذكروا ، وقام لهم شهود ما قد كانوا علموه ، فنفعتهم الذكرى ، فعملوا بما علموا ، والتفت الحق هنا إلى القابل وما التفت إلى المعرض ، فلم يرتبط الوجود إلا بالمؤمن ، فوعظنا بالحوادث الواقعة على خلاف الأغراض ، مما تنفر عنه طباعنا ، وذكرنا بأنا معرّضون لحلولها بنا إلا أن يعصم الله في بعضها لا في كلها ، فإن منتهى الدوائر وأعظمها الموت ، ولابد منه بأي وجه كان ، ولا أعني بالموت إلا الانتقال عن هذه الدار ، وذكرنا تعالى بموعظته ذكرى حال ، إذ أصاب من قبلنا بوقوع تلك الدوائر عليهم ، وذكرنا بأمور أخر خبّر عنها في المستقبل عند الانتقال إلى الدار الآخرة ، تقع بالعباد ، مما يسر وقوعها ومما لا يسر ، ومما يوافق الغرض ويلايم الطبع ، ومما لا يلايم الطبع ولا يوافق الغرض ، ومما يدل على الكمال والنقص ، فذكر بالرغبة في ذلك والرهبة من ذلك ، وشهد الله أن الذكرى تنفع المؤمنين ، فانتفاعك بالذكرى شاهد لك بالإيمان ، وإن لم تنفعك الذكرى فاتهم نفسك في إيمانك ، وإذا رأيت من يدعي الإيمان ويذكر فلا يقع له نفع بما ذكّر به علمت أنه في الحال ليس بعالم بما آمن به ، فليس بمؤمن أصلا ، فإن شهادة الله حق وهو صادق ، وقد أعلمنا أن المؤمن ينتفع بالذكرى ، وشهدنا أن هذا لم ينتفع بالذكرى ، فلابد أن نزيل عنه الإيمان تصديقا لله ، ولا معنى للنفع إلا وجود العمل منه بما علم ، وما نرى أحدا يتوقف بالعمل فيما يزعم أنه عالم به ، إلا وفي نفسه احتمال ، ومن قام له في شيء