إنه قال عزوجل : (يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ) فلا يتذللون لي حتى يعرفوا مكانتي وعزتي ، فيتذللون لعزتي ويعرفون منزلتي من منزلتهم ، لذلك قال : (إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) ولا يعبدونه حتى يعرفوه ، فإذا عرفوه عبدوه ، قال ابن عباس (لِيَعْبُدُونِ) معناه ليعرفون ، فما فسر بحقيقة ما تعطيه دلالة اللفظ ، وإنما تفسيره ليذلوا لي ، فالعبد معناه الذليل ، يقال : أرض معبدة أي مذللة ، ولا يذل له من لا يعرفه ، فلابد من المعرفة به أولا ، وأنه ذو العزة التي تذل الأعزاء لها ، فلذلك عدل ابن عباس في تفسير العبادة إلى المعرفة ، هذا هو الظن به ، وما خلق الجن والإنس من بين الخلق إلا لمحبته ، فإنه ما يعبده ويتذلل إليه إلا محب ، وما عدا الإنسان فهو مسبح بحمده ، لأنه ما شهده فيحبه ، فما تجلى لأحد من خلقه في اسمه الجميل إلا للإنسان وفي الإنسان في علمي ، فلهذا ما فني وهام في حبه بكليته إلا في ربه أو فيمن كان مجلى ربه.
(مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ) (٥٧)
فإن الحق يتنزه عن الغذاء والأكل ، فإنه سبحانه لا ينبغي له أن يطعم ، ثم إن الله علم من بعضهم أنه يقوم له شبهة في السعي فيما خلق من أجله ، في حق الغير ، لما بلغه أن الله يقول : [جعت فلم تطعمني] وقال لما قال له العباد : [يا رب كيف تطعم وأنت رب العالمين؟] فقال الله له : [ألم تعلم أنه استطعمك فلان فلم تطعمه ، أما إنك لو أطعمته وجدت ذلك عندي] فأنزل الحق نفسه منزلة الجائع ، فلاحت له هذه الشبهة ، قال : نسعى في حق الغير وننتفع بما نسعى به بحكم التبع ، فقال الله له : ما فهمت عني (ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ) والرزق معنوي وحسي ، أي محسوس ومعقول ، وهو كل ما بقي به وجود عين المرزوق ، فهو غذاؤه ، والمرزوقون منهم معقول ومنهم محسوس ، ورزق كل مرزوق ما كان به بقاؤه ونعيمه إن كان ممن يتنعم ، وحياته إن كان ممن يوصف بأنه حي ، وليست الأرزاق لمن جمعها ، وإنما الأرزاق لمن تغذى بها.
(إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) (٥٨)
لا أنتم ، فما بقيت لمن قامت لهم شبهة حجة بتمام الآية ، وأما اعتمادهم على ذلك الخبر