بِمَنِ اهْتَدَى) (٣٠)
قال تعالى في الجاهل : (ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) فسمى الجهل علما ، فنقول هو جهل في عين العلم ، فإن الجاهل قد يتصف بالعلم فيما هو جاهل به ، فإن مسمى العلم ينطلق اسمه على ما هو علم وما ليس بعلم ، وأعلمنا الحق أنهم عملوا بما علموا عن الحياة الدنيا ، ولكنهم أعرضوا عن العلم بالآخرة فلم يعملوا لها ، والعلم ليس سوى عين العلامة وبه سمي علما ، فبالعلم يعلم العلم كما يعلم به سائر المعلومات ، فهي كلها علامات ، ولذلك قد يسمى الظن علما شرعا ، لأن العلم هنا عبارة عن العلامة التي يحصل بها الظن في نفس الظان الحاكم به ، فيكون علمه بتلك العلامة علما ، ولذلك قال تعالى : (ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) ولم يكن علما ، فكأنه قال : ذلك الذي أعطتهم العلامة في ذلك الأمر (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى) فذكر أعلم في الصنفين ، واعلم أن التولي عن الذكر المضاف إلى الله ، ما أطلق الله الإعراض عنه على الانفراد ، بل ضم إليه قوله ولم يرد إلا الحياة الدنيا ، فبالمجموع أمر الحق تعالى نبيه صلىاللهعليهوسلم إذا وقع بالإعراض عنه فإن قوله تعالى : (ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) ذمّ ـ إشارة لا تفسير ـ لما كان لله سبحانه وتعالى القرب المفرط من العبد كما قال : (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) والحياة الدنيا ليس إلا نعيم العبد بربه على غاية القرب الذي يليق بجلاله ، ولم يكن مراد المذكر بالذكر إلا أن يدعو الغافل عن الله ، فإن جاء الذاكر ودعا بالذكر ، فسمعه هذا المدعو ـ وكان معتنى به ـ فشاهد المذكور عند الذكر في حياته الدنيا ، أمر الله هذا المذكر أن يعرض عن هذا المذكور لئلا يشغله بالذكر عن شهود مذكوره والنعيم به ، فقال الحق يخاطبه : (فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا) لأن الذكر لا يكون إلا مع الغيبة (وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا) وهي نعيم القرب ـ من باب الإشارة لمن هو في هذا المقام لا من باب التفسير ـ ثم تمم وقال : (ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) ثناء من باب الإشارة على هذا الشخص وتنبيها على رتبته في العلم بالله ، فأما ما فيه من الثناء عليه ، أنه في حال شهوده للحق في مقام القرب ، فلا يقدر لفنائه على القيام بما يطلبه به الذكر من التكليف ، فكأن المذكر ينفخ في غير ضرم ، لأنه لا يجد قابلا ، فأمر بالإعراض عنه لما في ذلك الذكر بهذه الحالة من سوء الأدب في الظاهر مع الذّكر ، فلو