(وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ) (٥٠)
الأمر الإلهي كلمة واحدة كلمح بالبصر ، وليس في التشبيه الحسي أعظم ولا أحق تشبيها به من اللمح بالبصر ، فإن البصر لا شيء أسرع منه ، فإن زمان لمحة العين ـ أي زمان التحاظه ـ عين زمان تعلقه بالملموح ، ولو كان في البعد ما كان ، فهو زمان التحاقه بغاية ما يمكن أن ينتهي إليه في التعلق ، وأبعد الأشياء في الحس الكواكب الثابتة التي في فلك المنازل ، وعندما تنظر إليها يتعلق اللمح بها ، فهذه سرعة الحس ، فما ظنك بالمعاني المجردة عن التقييد في سرعة نفوذها؟ فإن للسرعة حكما في الأشياء لا يكون لغير السرعة ، ومن هنا يعرف قول الحق للشيء ؛ كن فيكون ؛ فحال كن الإلهية حال المكون المخلوق (وَما أَمْرُنا) وهو قوله : كن (إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ) ومن أراد أن يعرف ذلك في صورة نشء العالم وظهوره ، وسرعة نفوذ الأمر الإلهي فيه وما أدركت الأبصار والبصائر منه ، فلينظر إلى ما يحدث في الهواء من سرعة الحركة بجرة النار في يد المحرك لها ، إذا أدارها ، فتحدث في عين الرائي دائرة أو خطا مستطيلا إن أخذ بالحركة طولا أو أي شكل شاء ، ولا تشك أنك أبصرت دائرة نار ولا تشك أن ما ثمّ دائرة ، وإنما أنشأ ذلك في نظرك سرعة الحركة ، فالدائرة مثل عين الصورة المخلوقة الظاهرة لإدراك العين عن قوله : كن ، فتحكم من حيث نظرك ببصرك وبصيرتك وفكرك أنه خلق وبعلمك وكشفك أنه حق مخلوق به ، واعلم أن الكيفيات لا تنقال ، ولكن تقال بضرب من التشبيه ، فإن أمره واحدة أي كلمة واحدة مثل لمح بالبصر ، فإن اللمحة الواحدة من البصر تعمّ من أحكام المرئيات من حيث الرائي إلى الفلك الأطلس جميع ما يحوي عليه في تلك اللمحة من الذوات والأعراض القائمة بها من الأكوان والألوان ، وشبّه الإمضاء بلمح البصر ، وسبب ذلك أن الذي يصدر منه الأمر لا يتقيد ، فهو في كل مأمور بحيث أمر ، فينفذ الأمر بحكمه دفعة واحدة.
(وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ (٥١) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (٥٢) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ) (٥٣)