نصب القرآن ،
يعني علّم القرآن أين ينزل من الإنسان ، هل في النفس ، أو في الجنان؟ وفي أي قلب
يكون ويستقر ، وعلى أي قلب ينزل ، فالرحمن علّم القرآن النزول إلى قلوب عباده
المؤمنين التي وسعته ، فهو نزول منه إليه.
(خَلَقَ الْإِنسَانَ)
(٣)
فعين له الصنف
المنزل عليه. اعلم أن الله كان ولا شيء معه ، لم يرجع إليه من إيجاد العالم صفة لم
يكن عليها ، بل كان موصوفا لنفسه ، ومسمى قبل خلقه بالأسماء التي يدعونه بها خلقه
، فلما أراد وجود العالم وبدأه على حد ما علمه بعلمه بنفسه ، انفعل عن تلك الإرادة
المقدسة بضرب تجل من تجليات التنزيه إلى الحقيقة الكلية ، انفعل عنها حقيقة تسمى
الهباء ، هي بمنزلة طرح البناء الجص ليفتح فيها ما شاء من الأشكال والصور ، وهذا
هو أول موجود في العالم ، ثم أنه سبحانه تجلى بنوره إلى ذلك الهباء ، والعالم كله
فيه بالقوة والصلاحية ، فقبل منه تعالى كل شيء في ذلك الهباء على حسب قوته
واستعداده ، كما تقبل زوايا البيت نور السراج ، وعلى قدر قربه من ذلك النور يشتد
ضوءه وقبوله ، فلم يكن أقرب إليه قبولا في ذلك الهباء إلا حقيقة محمد صلىاللهعليهوسلم المسماة بالعقل ، فكان سيد العالم بأسره ، وأول ظاهر في
الوجود ، فكان وجوده من ذلك النور الإلهي ، ومن الهباء ومن الحقيقة الكلية ، وفي
الهباء وجد عينه ، وعين العالم من تجليه ، ثم انتهى ترتيب نضد العالم وإيجاده إلى
الإنسان ، فهو آخر الموّلدات ، وهو نظير العقل الأول وبه ارتبط ، لأن الوجود دائرة
، فكان ابتداء الدائرة وجود العقل الأول الذي ورد في الخبر أنه أول ما خلق الله
العقل ؛ فهو أول الأجناس وانتهى الخلق إلى الجنس الإنساني فكملت الدائرة ، واتصل
الإنسان بالعقل كما يتصل آخر الدائرة بأولها ، فكانت دائرة ، وما بين طرفي الدائرة
جميع ما خلق الله من أجناس العالم ، بين العقل الأول الذي هو القلم أيضا ، وبين
الإنسان الذي هو الموجود الآخر ، ولما كانت الخطوط الخارجة من النقطة التي في وسط
الدائرة إلى المحيط الذي وجد عنها ، تخرج على السواء لكل جزء من المحيط ، كذلك
نسبة الحق تعالى إلى الموجودات نسبة واحدة فلا يقع هناك تغيير البتة ، كانت
الأشياء كلها ناظرة إليه ، وقابلة منه ما يهبها ، نظر أجزاء المحيط إلى النقطة ،
واعلم أن الله ما خلق العالم الخارج عن الإنسان إلا ضرب مثال للإنسان ، ليعلم