أن كل ما ظهر في العالم هو فيه ، فكل مولد يجمع حقائق ما فوقه حتى ينتهي
إلى الإنسان ، وهو آخر مولد ، فتجمع فيه جميع قوى العالم والأسماء الإلهية بكمالها
فسمي إنسانا لعموم نشأته وحصره الحقائق كلها ، وهو للحق بمنزلة إنسان العين من
العين الذي يكون به النظر ، وهو المعبر عنه بالبصر ، فلهذا سمي إنسانا ، فإنه به
نظر الحق سبحانه إلى خلقه فرحمهم ، فلا موجود أكمل من الإنسان الكامل ، ومن لم
يكمل في الدنيا من الأناسي فهو حيوان ناطق ، جزء من الصورة ، لا يلحق بدرجة
الإنسان ، بل نسبته إلى الإنسان نسبة جسد الميت إلى الإنسان ، فهو إنسان بالشكل لا
بالحقيقة ، فالإنسان هو العين المقصودة ، وهو مجموع الحكم ، ومن أجله خلقت الجنة
والنار ، والدنيا والآخرة ، والأحوال كلها والكيفيات ، وفيه ظهر مجموع الأسماء
الإلهية وآثارها ، فهو المنعّم والمعذّب ، والمرحوم والمعاقب ، ثم جعل له أن يعذب
وينعم ويرحم ويعاقب ، وهو المكلف المختار ، وهو المجبور في اختياره ، وله يتجلى
الحق بالحكم والقضاء والفصل ، وعليه مدار العالم كله ، ومن أجله كانت القيامة ،
وبه أخذ الجان ، وله سخر ما في السموات وما في الأرض ، ففي حاجته يتحرك العالم كله
علوا وسفلا ، دنيا وآخرة ، وجعل نوع هذا الإنسان متفاوت الدرجات ، فسخر بعضه لبعضه
، وسخره لبعض العالم ليعود نفع ذلك عليه ، فما سخر إلا في حقّ نفسه ، وانتفع ذلك
الآخر بالعرض ، وما خص أحد من خلق الله بالخلافة إلا هذا النوع الإنساني ، وملّكه
أزمة المنع والعطاء ، فالسعداء خلفاء ونواب ، ومن دون السعداء فنواب لا خلفاء ،
ينوبون عن أسماء الله في ظهور حكم آثارها في العالم على أيديهم ، وقدم الله الإنس
على الجان في آيات هذه السورة ، وفي قوله تعالى : (خَلَقَ الْإِنْسانَ) فابتدأ به تقديرا ومرتبة نطقية ، تهمما به على الجن ،
وإن كان الجن موجودا قبله ، يؤذن بأنه وإن تأخرت نشأته فهو المعتنى به في غيب ربه
، لأنه المقصود من العالم لما خصه به من كمال الصورة في خلقه باليدين ـ إشارة واعتبار ـ اعلم أن العوالم أربعة : العالم الأعلى وهو عالم البقاء
، ثم عالم الاستحالة وهو عالم الفناء ، ثم عالم التعمير وهو عالم البقاء والفناء ،
ثم عالم النسب ، وهذه العوالم في موطنين : في العالم الأكبر وهو ما خرج عن الإنسان
، وفي العالم الأصغر وهو الإنسان ، (فأما العالم الأعلى) فالحقيقة المحمدية وفلكها
الحياة ، نظيرها من الإنسان اللطيفة والروح القدسي ، ومنهم العرش المحيط ، ونظيره
من الإنسان الجسم ، ومن ذلك الكرسي ،