(وَالسَّماءَ) وهي قبة الميزان (رَفَعَها) في البنيان ، لما ها من الولاية والحكم في الأكوان ،
فهي السقف المرفوع على الأركان (وَوَضَعَ الْمِيزانَ)ـ
الوجه الأول ـ وضع الميزان في سباحة الكواكب في أفلاكها ، التي هي طرق في السموات ، لتجري
بالمقادير الكائنة في العالم ، على قدر معلوم لا تتعدّاه ، فهي تعطي وتمنع بذلك
الميزان الذي وضع الحق لها ، لأنها تشاهد الميزان بيد الحق حين يخفض به ويرفع ،
فإذا نظرت إلى من رفعه الحق بميزانه أعطته ما يستحقه مقام الرفع ، وإذا رأت الحق
يضع بميزانه من شاء أعطته ما يستحقه مقام الوضع ، وذلك هو التسخير الذي ورد في
القرآن أنها مسخرات بأمره ، فصاحب الشهود يقول : مطرنا بفضل الله ورحمته ؛ بالوزن
الذي جعله في سباحة كوكب من الكواكب ، وما قدره الله له من المنازل التي ينزل فيها
، والمحجوب عن هذا المقام يقول : مطرنا بنوء كذا وكذا ؛ فيذكر الكوكب المجبور في
ذلك ويضيف ما ظهر من المطر الصائب إليه ، كما يضيف أفعاله خلقا إلى نفسه ، فسمي
عند ذلك كافرا بالله مؤمنا بمن رأى الفعل منه ، ويسمى الأول مؤمنا بالله كافرا بمن
رأى الحسن الفعل صادرا منه ، من حيث ما هو محل ، ومن المكلفين من ليس له هذا
الشهود ، ولا تركه الإيمان يقف مع الحجاب الذي على عينه ، فيقول مثل ما يقول صاحب
الشهود : مطرنا بفضل الله ورحمته ، تقليدا لا علما ، حتى يتميز المؤمن من العالم ،
فإن المؤمن يقول ذلك لورود الخبر الصادق به ، ويقوله صاحب النظر لما يعطيه دليل
عقله مثل المؤمن سواء ، إلا أن له درجة زائدة ، وهذان الصنفان لا يبلغان مبلغ صاحب
الشهود في الدرجة ، فإنه يزيد عليهما بالعين ـ الوجه الثاني ـ (وَوَضَعَ الْمِيزانَ) في الأرض ، أي وضع ميزانا عندنا في الأرض ، وهو ميزان
الشرع ، لنصرفه بحسب وضع الحق ، فلا يتعدى الميزان الذي يطلبه منه ، وهو الميزان
الإلهي المشروع ، فمن عرفه ووقف عنده وتأدب بآداب الله التي أدب بها رسله فقد فاز
، وحاز درجة العلم بالله ، وعلم أن الله وضع الميزان ليظهر به إقامة العدل في
العالم بصورة محسوسة ، ليرتفع النزاع بين المتنازعين ، لوجود الكفتين المماثلة
للخصمين ، ولسان الميزان هو الحاكم ، فإلى أية جهة مال حكم لتلك الجهة بالحق ، وإن
هو بقي في قبته من غير ميل إلى جهة إحدى الكفتين ، علم أن المتنازعين لكل واحد
منهما حق فيما ينازع فيه ، فيقع له الإنصاف لما شهد له به حاكم لسان الميزان ،
فارتفع الخصام والمنازعة ، فلو أن الله يفتح عين بصائر الخصماء لمشاهدة