(فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) (٧٧)
فإن عطايا الحق كلها نعم ، إلا أن النعم في العموم موافقة الغرض ، وعطايا الحق كلها عند العارف إنما هي معارف بالله جهلها غير العارف وعرفها دون غيره ، وعوارف الحق مننه ونعمه على عباده ، فما أطلعك منها على شيء إلا ليردك منك إليه ، فهو دعاء الحق في معروفه لما رأى عندك من الغفلة عنه ، فتحبب إليك بالنعم.
(تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ) (٧٨)
الجلال نعت إلهي يعطي في القلوب هيبة وتعظيما ، وبه ظهر الاسم الجليل ، وهو يدل على الضدين ، فيعطى حكمه نعوت التنزيه والتشبيه ، ولحضرة الجلال السبحات الوجهية المحرقة ، ولهذا لا يتجلى في جلاله أبدا ، لكن يتجلى في جلال جماله لعباده ، فهو (ذُو الْجَلالِ) أي صاحب الجلال الذي نجده في نفوسنا (وَالْإِكْرامِ) بنا ، فالكرم يتبع أبدا الجلال من حيث ما يعطيه وضع الجلال ، فإن السامع إذا أخذ الجلال على العظمة أدركه القنوط ، لعدم الوصول إلى من له العظمة ، لما يرى نفسه عليه من الاحتقار والبعد عن التفات ما يعطيه مقام العظمة إليه ، فأزال الله عن وهمه ذلك الذي تخيله بقوله : (وَالْإِكْرامِ) أي وإن كانت له العظمة ، فإنه يكرم خلقه وينظر إليهم بجوده وكرمه ، نزولا منه من هذه العظمة ، فلما سمع القانط ذلك ، عظم في نفسه أكثر مما كان عنده أولا من عظمته ، وذلك لأن العظمة الأولى التي كان يعظّم بها الحق كانت لعين الحق عن انكسار من العبد وذلة ، فلما وصف الحق نفسه بأنه يكرم عباده بنزوله إليهم ، حصل في نفس المخلوق أن الله ما اعتنى به هذه العناية إلا وللمخلوق في نفس هذا العظيم ذي الجلال تعظيم ، فرأى نفسه معظما ، فلذلك زاد في تعظيم الحق في نفسه إيثارا لجنابه لاعتناء الحق به على عظمته ، فزاد الحق بالكرم تعظيما في نفس هذا العبد أعظم من العظمة الأولى ، فإن كرامته بنا إعطاؤنا الوجود ، وهو تعالى كريم بما وهب وأعطى وجاد وامتن به من جزيل الهبات والمنح ، والتزام الجلال والإكرام التزام الألف واللام ، فكان الجلال للتنزيه عن التشبيه ، وكان الإكرام للتنويه به في نفي التشبيه بالشبيه.