مِّنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون (٨٣) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (٨٤) فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ) (٨٥)
إن الإنسان ولد على الفطرة ، وهو العلم بوجود الرب أنه ربنا ونحن عبيد له ، والإنسان لا يقبض حين يقبض إلا بعد كشف الغطاء ، فلا يقبض إلا مؤمنا ، ولا يحشر إلا مؤمنا ، فلا يموت أحد من أهل التكليف إلا مؤمنا عن علم وعيان محقق ، لا مرية فيه ولا شك ، من العلم بالله والإيمان به خاصة ، هذا هو الذي يعمّ ، غير أن الله تعالى لما قال : (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا) ولا بأس أشد من الموت ، فما بقي إلا هل ينفعه ذلك الإيمان أم لا؟ فما آمنوا إلا ليندفع عنهم ذلك البأس ، فما اندفع عنهم ، وأخذهم الله بذلك البأس ، فما رفع العقوبة عنهم إلا من اختصه الله ، وما ذكر أنه لا ينفعهم في الآخرة ، ويؤيد ذلك قوله تعالى : (فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا) حين رأوا البأس (كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) فهذا معنى قولنا (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ) في رفع البأس عنهم في الحياة الدنيا كما نفع قوم يونس ، فما تعرض إلى الآخرة ، أما الاستثناء هنا فلا حكم على الله في خلقه ، وأما نفع ذلك الإيمان في المآل فإن ربك فعال لما يريد ، ومع هذا فإن الله يقيم حدوده على عباده حيث شاء ، ومتى شاء ، فقوله تعالى : (سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ) هو موضع استشهادنا ، فحقت كلمة الله وجرت سنته في عباده ، أن الإيمان في ذلك الوقت لا يدفع عن المؤمن العذاب الذي أنزله بهم في ذلك الوقت ، إلا قوم يونس ، كما لا ينفع السارق توبته عند الحاكم فيرفع عنه حد القطع ، ولا الزاني مع توبته عند الحاكم ، مع علمنا بأنه تاب بقبول التوبة عند الله ، وحديث ماعز في ذلك صحيح أنه تاب توبة لو قسمت على أهل المدينة لوسعتهم ؛ ومع هذا لم يدفع عنه الحد ، بل أمر رسول الله صلىاللهعليهوسلم برجمه ، كذلك كل من آمن بالله عند رؤية البأس من الكفار ، إن الإيمان لا يرفع البأس عنهم مع قبول الله إيمانهم في الدار الآخرة ، فيلقونه ولا ذنب لهم ، فإنهم ربما لو عاشوا بعد ذلك اكتسبوا أوزارا ، فالرجعة إلى الله عند رؤية البأس وحلول العذاب نافعة في الآخرة