برؤية أهل النار ، يصعدون على ذلك السور ، فينغمسون في الرحمة ، فيطلعون على أهل النار ، فيجدون من لذة النجاة منها ما لا يجدونه من نعيم الجنة ، لأن الأمن الوارد على الخائف أعظم لذة عنده من الأمن المستصحب ، وينظر أهل النار إليهم بعد شمول الرحمة فيجدون من اللذة بما هم في النار ، ويحمدون الله تعالى حيث لم يكونوا في الجنة ، وذلك لما يقتضيه مزاجهم في تلك الحالة ، فلو دخلوا الجنة بذلك المزاح لأدركهم الألم ولتضرروا ، فالسور باطنه فيه الرحمة الخالصة ، وظاهره من قبله العذاب ، ولم يقل : الآلام ؛ آلام العذاب ، لعلمه بما يؤول إليه الأمر ، فأبان تعالى أن باطن هذا الموجود فيه الرحمة ، والظاهر منه لا يتصرف إلا بحكم الباطن ، فلا يكون أمر مؤلم في الظاهر إلا عن رحمة في الباطن ، فإن الحكم للباطن في الظاهر ، فما كان العذاب في ظاهر السور إلا عن قصد الرحمة به التي في باطن السور ، فليس الألم بشيء سوى عدم اللذة ونيل الغرض ، فما عند الله باب يفتح إلا أبواب الرحمة ، غير أنه ثمّ رحمة ظاهرة لا ألم فيها ، وثم رحمة باطنة يكون فيها ألم في الوقت لا غير ، ثم يظهر حكمها في المآل ، فالآلام عوارض واللذات ثوابت ، فالعالم مرحوم بالذات متألم بما يعرض له ، ولابد من الكشف فتظهر رحمة باطن السور فتعم ، فهناك لا يبقى شقي إلا سعد ولا متألم إلا التذ ، ومن الناس من تكون لذته عين انتزاح ألمه ، وهو الأشقى ، وهو في نفسه في نعيم ، ما يرى أن أحدا أنعم منه ، كما قد كان يرى أنه لا أحد أشد عذابا منه ، وسبب ذلك شغل كل إنسان أو كل شيء بنفسه ، الإنسان يضرب ابنه أدبا ، ويؤلمه بذلك الضرب عقوبة لذنبه ، وهو يرحمه بباطنه ، فإذا وفّى الأمر حقه أظهر له ما في قلبه وباطنه من الرحمة به وشفقة الوالد على ولده ، جعلنا الله والسامعين من أهل الرحمة الخالصة التي لا ألم لها بمنّه ـ إشارة ـ أنت سر الأعراف ، سور باطنه الرحمة ، وهو ما عندك من الرحمة بنفسك ، حيث تسلك بها مسالك السعادة ، وظاهره من قبله العذاب ، حيث تظهر على ذلك من المجاهدات ما يكون أشد العذاب على النفوس.
(يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاء أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ) (١٤)