الإحالة من صورة إلى صورة ، مثل ما يحكم في باقي المولدات ، فإن الاستحالة تسرع إليهم ، ويظهر سلطانها فيهم بزيادة ونقص وخلع صورة منهم وعليهم ، وهذا يبعد حكمه في المعادن ، فلا تتغير الأحجار مع مرور الأزمان والدهور إلا عن بعد عظيم ، وذلك لعزتها التي اكتسبتها من الاسم الإلهي العزيز ، الذي توجه على إيجادها من الحضرة الإلهية.
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُم مُّهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ (٢٦) ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاء رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ) (٢٧)
الرهبة المطلقة من غير تقييد بأمر معين ، هي كل خوف يكون بالعبد حذرا أن لا يقوم بحدود ما شرع له ، سواء كان حكما مشروعا إليها أو حكما حكميا ، قال تعالى : (وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها) وهي النواميس الحكمية التي لم يجيء الرسول المعلوم بها في العامة من عند الله ، بالطريقة المخصوصة في العرف ، فمجموع ما ابتدعوه من العبادة ما كان الحق شرع ذلك لهم ، فلا بديع من المخلوقات إلا من له تخيل ، ولا يشترط في المبتدع أنه لا مثل له على الإطلاق ، إنما يشترط فيه أنه لا مثل له عند من ابتدعه ولو جاء بمثله خلق كثير ، فلما وافقت الحكمة والمصلحة الظاهرة فيها الحكم الإلهي في المقصود بالوضع المشروع الإلهي ، اعتبرها الله اعتبار ما شرعه من عنده تعالى ، وما كتبها الله عليهم ، فقال : (ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ) أي ما أوجبناها عليهم ابتداء ، فاعتبرها الحق فأصبحت شرعا إليها ، وأخذهم بعدم مراعاتها (إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللهِ) ولما فتح الله بينه وبين قلوبهم باب العناية والرحمة من حيث لا يشعرون ، جعل في قلوبهم تعظيم ما شرعوه ، يطلبون بذلك رضوان الله ، على غير الطريقة النبوية المعروفة ، فأثنى على المراعين لها ليحسن القصد والنية في ذلك (فَما رَعَوْها) هؤلاء الذين شرعوها وشرعت لهم (حَقَّ رِعايَتِها) فيما ابتدعوه من الرهبانية ،