الله مكانة يتميز بها كل موجود عن غيره ؛ ثم إن الله تعالى عاد بالمكانة على هذا المنزه بأن كان الحقّ مجلاه فرأى نفسه ورتبته فسبح على قدر ما رأى ، فإذا هو نفسه لا غيره ، وذلك أن الحق أسدل بينه وبين عباده حجاب العزة فوقف التنزيه دونه ، فعلم أن الحق لا يليق به تنزيه خلقه ، وأن حجاب العزة أحمى ، وقهرها أغلب ، ثم رأى من سواه من العارفين بالله المنزهين بنعوت السلوب على مراتب ، وقد أقر الجميع منهم بأنهم كانوا غالطين في محل تنزيههم ، وأن تنزيههم ما خرج عنهم ، وذلك لحكمته التي سرت في خلقه ، فكان ذلك تنزيه الحكمة لا غيره ، ولو لا ستر حجاب العزة ما عرفوا ذلك ، ومن هذا الحجاب ظهر الكفر في العالم وصارت المعرفة خبرا بما وراء هذا الحجاب ، فظهر الإيمان في العالم.
(هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ) (٢)
بالحشر يقع الازدحام ، وبه يكون الالتحام ، لو لا الحشر ما زوجت النفوس بأبدانها ، ولا أقيمت المآدب بميدانها ، (فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ) لو لا الحواس ما ثبت القياس ، ولو لا البصر ما صدق من اعتبر ، الاعتبار جواز من أين إلى أين ، وانتقال من عين إلى عين ، ومن كون إلى كون وعدم ، لا من عدم إلى كون ، فالاعتبار تعجب من الاقتدار ، والاعتبار شرعا هو الجواز من الصورة التي ظهر حكمها في الحس إلى ما يناسبه في ذاتك ، أو في جناب الحق مما يدل على الحق ، هذا معنى الاعتبار ، فإن الله قد ربط بكل صورة حسية روحا معنويا ، لهذا يعتبر خطاب الشارع في الباطن على حكم ما هو في الظاهر قدما بقدم ، لأن الظاهر منه هو صورته الحسية ، والروح الإلهي المعنوي في تلك الصورة هو الذي نسميه الاعتبار في الباطن ، فإنه من عبرت الوادي إذا قطعته وجزته ، قال تعالى : (فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ) أي تعجبوا وجوزوا ، واعبروا إلى ما أردته بهذا التعريف مما رأيتموه من