أحدية الألوهة له تعالى ، فقال : (هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ) وكل اسم واحد مدلوله ليس مدلول عين الاسم الآخر ، وإن كان المسمى بالكل واحدا ، فما عرف الله إلا الله ، فإن معرفتنا بالله بالأدلة العقلية والشرعية إثبات وجود الذات مع جهلنا حقيقتها ، فلا نصل إلى معرفة حقيقتها ولا يمكن الوصول إلى ذلك ، وإثبات الألوهة للذات مع جهلنا بنسبة ما نسبناه إليها من الأحكام ، فإنا وإن كنا نعرف النسبة من كونها نسبة ، فقد نجهل النسبة الخاصة لجهلنا بالمنسوب إليه ، وهذا هو التوحيد الثالث والثلاثون في القرآن ، وهو توحيد العلم ، وهو من توحيد الهوية ، وهو توحيد من حيث التفرقة ، لأنه ميّز بين الغيب والشهادة ، وجمع بين العلم والرحمة ، فقال : (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ) أما قوله تعالى : (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) فاعلم أن الله تعالى لما خلق العالم جعل له ظاهرا وباطنا ، وجعل منه غيبا وشهادة لنفس العالم ، فما غاب من العالم عن العالم فهو الغيب ، وما شاهد العالم من العالم فهو شهادة ، وكله لله شهادة ظاهر ، فكان قوله تعالى : (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) أي ما غاب عنا وما نشهد ، فإنه لا يتصور في حق الله غيب ، فالغيب أمر إضافي لما غاب عنا ، فالعالم عالمان ما ثم ثالث : عالم يدركه الحس وهو المعبر عنه بالشهادة ، وعالم لا يدركه الحس وهو المعبر عنه بعالم الغيب ، فإن كان مغيبا في وقت وظهر في وقت للحس فلا يسمى ذلك غيبا ، وإنما الغيب ما لا يمكن أن يدركه الحس لكن يعلم بالعقل ، إما بالدليل القاطع وإما بالخبر الصادق ، وهو إدراك الإيمان ، فالشهادة مدركها الحس ، وهو طريق إلى العلم ما هو عين العلم ، وذلك يختص بكل ما سوى الله ممن له إدراك حسي ، والغيب مدركه العلم عينه ، والغيب في هذه الآية هو الذي يقابل الشهادة ، فوصف نفسه بعلم المتقابلين ، وما هو الغيب الذي انفرد الحق به سبحانه في قوله تعالى : (عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً) وما قرنه بالشهادة ، فإن هذا الغيب وإن اشترك مع ذاك في الاسمية إلا أن هناك فرقا ، وهو أن هذا الغيب المقابل للشهادة هو الغيب المغيب الذي يتصف في وقت بالشهادة ، لا بالغيب الذي يستحيل عليه أن يكون شهادة بوجه من الوجوه ، فهو الغيب الإمكاني الذي تبرز منه الأشياء إلى عالم الشهادة ، فإما أن تبقى في عالم الشهادة أو لا تبقى كالأعراض ، فإن لم تبق فلابد أن تفارق الشهادة ، وإذا فارقت الشهادة فإنها تدخل إلى الغيب الذي لا يمكن أن يدرك أبدا شهادة ، ولا يكون لها رجوع بعد ظهورها إلى الغيب الذي خرجت منه ، بل تنتقل إلى الغيب المحالي