الذي لا يظهر عنه أبدا شيء يتصف بالشهادة ، فهذان غيبان : الغيب الذي يوجد منه الكائنات ، والغيب الذي ينتقل إليه بعض الكائنات بعد اتصافها بالشهادة ، وهما بخلاف الغيب الذي لا يدرك بالحس ، والذي انفرد الحق بعلمه في قوله : (عالِمُ الْغَيْبِ) فالغيب في هذه الآية ظرف لعالم الشهادة ، وعالم الشهادة هنا كل موجود سوى الله تعالى مما وجد ولم يوجد ، أو وجد ثم ردّ إلى الغيب ، كالصور والأعراض وهو مشهود لله تعالى ، ولهذا قلنا إنه عالم الشهادة ، ولا يزال الحق سبحانه يخرج العالم من الغيب شيئا بعد شيء إلى ما لا يتناهى عددا من أشخاص الأجناس والأنواع ، ومنها ما يرده إلى غيبه ومنها ما لا يرده أبدا ، فالذي لا يرده أبدا إلى الغيب كل ذات قائمة بنفسها وليس إلا الجواهر خاصة ، وكل ما عدا الجواهر من الأجسام والأعراض الكونية واللونية ، فإنها ترد إلى الغيب ويبرز أمثالها ، والله يخرجها من الغيب إلى شهادتها أنفسها ، فهو عالم الغيب والشهادة ، والأشياء في الغيب لا كمية لها ، إذ الكمية تقتضي الحصر ، فيقال كم كذا وكذا؟ وهذا لا ينطلق عليها في الغيب فإنها غير متناهية ، فكم وكيف والأين والزمان والوضع والإضافة والعرض وأن يفعل وأن ينفعل ، كل ذلك نسب لا أعيان لها ، فيظهر حكمها بظهور الجوهر لنفسه إذا أبرزه الحق من غيبه ، فإذا ظهرت أعين الجواهر تبعتها هذه النسب ، فليس في الوجود المحدث إلا أعيان الجواهر والنسب التي تتبعه ، فكان الغيب بما فيه كأنه يحوي على صورة مطابقة لعالمه ، إذ كان علمه بنفسه علمه بالعالم ، فالعالم عالمان ، والحضرة حضرتان ، وإن كان قد تولد بينهما حضرة ثالثة من مجموعهما ، فالحضرة الواحدة حضرة الغيب ولها عالم الغيب ، والحضرة الثانية حضرة الحس والشهادة ويقال لعالمها عالم الشهادة ، ومدرك هذا العالم بالبصر ، ومدرك عالم الغيب بالبصيرة ، والمتولد من اجتماعهما حضرة وعالم ، فالحضرة حضرة الخيال ، والعالم عالم الخيال ، وهو ظهور المعاني في القوالب المحسوسة ، كالعلم في صورة اللبن ، والثبات في الدين في صورة القيد ، والإسلام في صورة العمد ، والإيمان في صورة العروة ، وجبريل في صورة دحية الكلبي وفي صورة الأعرابي ، وتمثل لمريم في صورة بشر سوي ، ولذلك كانت حضرة الخيال أوسع الحضرات ، لأنها تجمع العالمين عالم الغيب والشهادة ، فإن حضرة الغيب لا تسع عالم الشهادة فإنه ما بقي فيها خلاء ، وكذلك حضرة الشهادة ، وحضرة الخيال العامة لا تعرفها ولا تدخلها إلا إذا نامت ورجعت القوى الحساسة إليها ، والخواص يرون ذلك في اليقظة لقوة التحقق بها ، وفي هذه الحضرة