بحث في الأمية ـ الأمية لا تنافي حفظ القرآن ولا حفظ الأخبار النبوية ، ولكن الأمية عندنا من لم يتصرف بنظره الفكري وحكمه العقلي في استخراج ما تحوي عليه من المعاني والأسرار وما تعطيه من الأدلة العقلية في العلم بالإلهيات ، وما تعطيه للمجتهدين من الأدلة الفقهية والقياسات والتعليلات في الأحكام الشرعية ، فإذا سلم القلب من علم النظر الفكري شرعا وعقلا كان أميا ، وكان قابلا للفتح الإلهي على أكمل ما يكون بسرعة دون بطء ، ويرزق من العلم اللدني في كل شيء مالا يعرف قدر ذلك إلا نبي أو من ذاقه من الأولياء ، وبه تكمل درجة الإيمان ونشأته ، وتقف بهذا العلم على إصابة الأفكار وغلطاتها ، وبأي نسبة ينسب إليها الصحة والسقم ، وكل ذلك من الله ، فإن الموازين العقلية وظواهر الموازين الاجتهادية في الفقهاء ترد كثيرا من الأمور ، إذ كان جله ومعظمه فوق طور العقل ، وميزانه لا يعمل هنالك ، وفوق ميزان المجتهدين من الفقهاء لا فوق الفقه ، فإن ذلك عين الفقه الصحيح والعلم الصريح ، وفي قصة موسى والخضر دليل قوي على ما ذكرناه ، فكيف حال الفقيه؟ وأين الأينية وما شاكلها التي نسبها الشارع إلى الإله من الموازين النظرية والبراهين العقلية على زعم العقل وحكم المجتهد؟ فالرحمة التي يعطيها الله عبده أن يحول بينه وبين العلم النظري والحكم الاجتهادي من جهة نفسه ، حتى يكون الله يحابيه بذلك في الفتح الإلهي والعلم الذي يعطيه من لدنه ، فيعطي البصر حقه في حكمه وسائر الحواس ، ويعطي العقل حكمه وسائر القوى المعنوية ، ويعطي النسب الإلهية والفتح الإلهي حكمهم ، فبهذا يزيد العالم الإلهي على غيره ، وهو البصيرة التي نزل القرآن بها في قوله تعالى : (أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي) وهو تتميم قوله تعالى : (بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ) فهو النبي الأمي الذي يدعو على بصيرة مع أميته ، والأميون هم الذين يدعون معه إلى الله على بصيرة ، فهم التابعون له في الحكم إذ كان رأس الجماعة. والمجتهد وصاحب الفكر لا يكون أبدا على بصيرة فيما يحكم به ، فأما المجتهد فقد يحكم اليوم في نازلة شرعية بحكم ، فإذا كان في غد لاح له أمر آخر أبان له خطأ ما حكم به بالأمس في النازلة ، فرجع عنه وحكم اليوم بما ظهر له ، ويمضي حكمه في الأول والآخر ، ويحرم عليه الخروج عما أعطاه الدليل في اجتهاده في ذلك الوقت ، فلو كان على بصيرة لما حكم بالخطأ في النظر الأول ، بخلاف حكم النبي ، فإن ذلك صحيح ، أعني الحكم الأول ، ثم رفع الله ذلك الحكم بنقيضه