مستسلمين خائفين فقدّر في الأرض أقواتها وجعلها أمانة عندها ، حمّلها إياها جبرا لا اختيارا ، وأوحى في كل سماء أمرها وجعل ذلك أمانة بيدها تؤديها إلى أهلها ، حمّلها إياها جبرا لا اختيارا ـ الوجه الثالث ـ لما أمرت السماء والأرض بالإتيان أمر وجوب ، فإن لم يجئن جيء بهن على كره. فقالتا أتينا طائعين لعلمهن بأن الذي أمرهن قادر على الإتيان بهن على كره منهن ، فقلن أتينا طائعين ، فالإتيان حاصل ، والطوع في معرض الاحتمال إن يكن صدقن في دعواهن ، فإن كان الحق القائل فما كذبا بل صدقا ، وإن كان القول بالواسطة فيحتمل ما قلناه ـ الوجه الرابع ـ تدل هذه الآية أن الله تعالى ما أوجد كل ما عدا الثقلين ولا خاطبهم إلا بصفة القهر والجبروت ، فإن قوله (كَرْهاً) كلمة قهر حيث أتت ، لذا بادرتا (قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ).
(فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) (١٢)
فلما قضاهن سبع سموات في يومين أوحى في كل سماء أمرها ، فإن الحق سبحانه جعل بين السماء والأرض التحاما معنويا وتوجها لما يريد سبحانه أن يوجده في هذه الأرض ، من المولدات من معدن ونبات وحيوان ، وجعل الأرض كالأهل ، وجعل السماء كالبعل ، والسماء تلقي إلى الأرض من الأمر الذي أوحى الله فيها كما يلقي الرجل الماء بالجماع في المرأة ، وتبرز الأرض عند الإلقاء ما خبأه الحق فيها من التكوينات على طبقاتها ، وقوله تعالى (فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها) فذلك الأمر هو الذي ينزل إلى أرضه بما أوحى الله فيها ، فهو ينزل من كل سماء إلى أرضه في قوله تعالى : (اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ) فجعل في كل سماء ما يصلح تنفيذه في الأرض من هذا الخلق ، ومن أمرها ما أودع الله في حركات الكواكب واقترانها وهبوطها وصعودها في بيوت نحوسها وسعودها ، فعن حركاتها وحركات ما فوقها من الأفلاك حدثت المولدات ، فأودع الله في خزائن الكواكب التي في الأفلاك علوم ما يكون من الآثار في العالم العنصري من التقليب والتغيير ، والكواكب مسخرة من الله أمينة على ما يحدثه في العالم ، وهو قوله تعالى : (وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ)