عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) (٦)
لما كانت الملائكة نورا عمّت جميع الجهات ، فلا أثر للهواء في النور ، ألا ترى النور في الشمس والسراج وفي كل جسم مستنير ، نسبته إلى العلو والجنبات نسبة واحدة ، والملائكة مخلوقون من نور ، فلا أثر للهوى فيهم ، فلا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ، فعالم الغيب أمر بلا نهي ، ولهذا سموا عالم الأمر ، وذلك لأن عالم الغيب عقل مجرد لا شهوة لهم ، فلا نهي عندهم في مقام التكليف ، فإن الله فطر الملائكة على المعرفة والإرادة لا الشهوة ، وأمرهم وأخبر أنهم لا يعصونه لما خلق لهم من الإرادة ، ولو لا الإرادة ما أثنى عليهم بأنهم لا يعصونه ، فإن الملائكة لما أمرت بالسجود امتثلت وبادرت ، فأثنى الله عليهم بقوله : (لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) فهم كما أثنى الله عليهم في كتابه العزيز ، فإن الأرواح الملكية لا نهي عندها ، ولهذا لم يذكر لهم نهي عن شيء لأن حقائقهم لا تقتضيه ، ولو لم تكن في قوة الملائكة ونشأتهم ما يقتضي رد أمر الله وما يقتضي قبوله ، ما أثنى الله عليهم بما أثنى به من نفي العصيان عنهم وفعلهم ما أمرهم به ، فإن المجبور لا ثناء عليه ، فالملك لا يتصور منه المخالفة ، وقد شهد الله له بذلك لتعريه عن لباس البشرية ، فلا يعصي الله ما أمره ، لأنه ما هو على حقائق متضادة تجذبه في أوقات ، وتغفله وتنسيه عما دعي إليه كما يوجد ذلك في النشأة العنصرية ، والإنسان نشأة عنصرية تطلبه حقائق متجاذبة بالفعل ، صاحب غفلة ونسيان ، يؤمر وينهى فيتصور منه المخالفة والموافقة ، فالملك أشد موافقة لله من الإنسان لما تعطيه نشأته ونشأة الإنسان ، فالملك أفضل في الموافقة لأمر الله ، والخليفة الإنسان أعلم بالأسماء الإلهية ، فالخليفة أتم في الجمعية وأفضل ، والملك أفضل من وجه خاص أو وجهين ، لكن ما له فضل الجمع ، والصورة لا تكون إلا بالمجموع ـ تحقيق ـ أثنى الله تعالى على الملائكة بقوله : (لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ) والحقيقة تنادي من خلف هذا الثناء : لا يعصون الله ما أراد منهم ؛ ثم قرن الأمر منه بإرادته فقال : (وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) ولما لم تعص الملائكة أمر الله أجابها الله في كل ما سألته فيه ، حتى أن العبد إذا وافق في الصلاة تأمينه تأمين الملائكة غفر له ، فكما أمر الله عبده فعصاه ، كذلك دعاه عبده فلم يجبه فيما سأل فيه كما أمره فلم يطعه ، فلا يلومن العبد إلا نفسه إذا دعا الحق في أمر فلم يجبه.