اعلم أن الله تعالى لما خلق الخلق قدرهم منازل لا يتعدونها ، فخلق الملائكة ملائكة حين خلقهم ، وخلق الرسل رسلا والأنبياء أنبياء والأولياء أولياء والمؤمنين مؤمنين ، والمنافقين منافقين والكافرين كافرين ، كل ذلك مميز عنده سبحانه معيّن معلوم ، لا يزاد فيهم ولا ينقص منهم ، ولا يبدل أحد بأحد ، فليس لمخلوق كسب ولا تعمل في تحصيل مقام لم يخلق عليه ، بل قد وقع الفراغ من ذلك ، وذلك تقدير العزيز العليم ، فمنازل كل موجود وكل صنف لا يتعداها ، ولا يجري أحد في غير مجراه ، فكل موجود له طريق تخصه لا يسلك عليها أحد غيره ، روحا وطبعا ، فلا يجتمع اثنان في مزاج واحد أبدا ، ولا يجتمع اثنان في منزلة واحدة أبدا ، لاتساع فلك الأسماء الإلهية ، فجميع ما فيه خلقه خلقه تعالى ، وليس يخلق شيئا ليس يعلمه (وَهُوَ اللَّطِيفُ) ـ الوجه الأول ـ بسؤاله (الْخَبِيرُ) بما سأل عنه ، لأنه واقع ، فكل علم عنده عن وقوع فهو به خبير ، وتعلقه به قبل وقوعه هو به عليم ، فهو استفهام منه عزوجل عما هو به عالم ، مثل قوله تعالى للملائكة [كيف تركتم عبادي] والملائكة تعلم أنه تعالى أعلم بعباده منهم ـ الوجه الثاني ـ (وَهُوَ اللَّطِيفُ) لعلمه بالسر المتعلق بالإيجاد (الْخَبِيرُ) لعلمه بما هو أخفى.
(هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) (١٥)
جعل الله الأرض ذلولا ، ووصفها بأنها ذلول ببنية المبالغة مبالغة في الذلة ، لكون الأذلاء يطؤنها ، فإن أذل الأذلاء من وطئه الذليل ، والعبيد أذلاء ، فلا أذل ممن يطؤه الأذلاء ، ونحن وجميع الخلائق عبيد أذلاء نطؤها بالمشي في مناكبها ، أي عليها ، فهي تحت أقدامنا ، فلهذا سماها ببنية المبالغة فهي أعظم في الذلة منهم ، ولما كانت بهذه المنزلة ، أمرنا أن نضع عليها أشرف ما عندنا في ظاهرنا وهو الوجه ، وأن نمرغه في التراب ، فعل ذلك جبرا لانكسار الأرض بوطء الذليل عليها الذي هو العبد ، فاجتمع بالسجود وجه العبد ووجه الأرض فانجبر كسرها ، فإن الله عند المنكسرة قلوبهم ، فكان العبد في ذلك المقام بتلك الحالة أقرب إلى الله سبحانه من سائر أحوال الصلاة ، لأنه سعى في حق الغير لا في حق نفسه ، وهو جبر انكسار الأرض من ذلتها تحت وطء الذليل لها ، فانتبه لما أشرت إليك فإن الشرع ما ترك