الكيس من الناس من يهرب من مجالسة الجن ، فإن مجالستهم رديئة جدا ، قليل أن تنتج خيرا ، لأن أصلهم النار ، والنار كثيرة الحركة ، ومن كثرت حركته كان الفضول أسرع إليه في كل شيء ، فالجن أشد فتنة على جليسهم من الناس ، فإنهم قد اجتمعوا مع الناس في كشف عورات الناس التي ينبغي للعاقل أن لا يطلع عليها ، غير أن الإنس لا تؤثر مجالسة الإنسان إياهم تكبرا ، ومجالسة الجن ليست كذلك ، فإنهم بالطبع يؤثرون في جليسهم التكبر على الناس وعلى كل عبد لله ، وكل عبد لله رأى لنفسه شفوفا على غيره تكبرا فإنه يمقته الله في نفسه من حيث لا يشعر. واعلم أن الجان هم أجهل العالم الطبيعي بالله ، ويتخيل جليسهم بما يخبرونه به من حوادث الأكوان ، وما يجري في العالم مما يحصل لهم من استراق السمع من الملأ الأعلى ، فيظن جليسهم أن ذلك كرامة الله به ، هيهات لما ظنوا ، ولهذا ما ترى أحدا قط جالسهم فحصل عنده منهم علم بالله جملة واحدة ، فرجال الله يفرون من صحبتهم أشد فرارا منهم من الناس ، فإنه لابد أن تحصل صحبتهم في نفس من يصحبهم تكبرا على الغير بالطبع ، وازدراء بمن ليس له في صحبتهم قدم. وكان للجن قبل مبعث محمد صلىاللهعليهوسلم مسالك نحو السماء يسلكون فيها ليستمعوا حديث الملأ الأعلى الملكي ، لذلك قالوا بعد أن وصفهم الحق بقوله :
(وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا (٧) وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاء فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا) (٨)
عند مبعث رسول الله صلىاللهعليهوسلم أشعل الفلك الأثير إشعالا عظيما ، فكثرت النجوم ذوات الأذناب في الأثير والاحتراقات ، وجعلها الحق رجوما للشياطين ، فعمرت كل مسلك في الأثير ، فضاقت المسالك على الجن الذي يسترقون السمع ، ولم يعرفوا ما علة ذلك فقالوا (وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً) فالحرس الملائكة وهم الرصد ، وهو قوله تعالى : (مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً) والشهب النجوم ذوات الأذناب.
(وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَّصَدًا) (٩)