(إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا) (٢٧)
قلنا : تدبر ما هو الغيب الذي اطلع عليه الرسل؟ وبماذا ربطه؟ فتعلم أن ذلك علم التكليف الذي غاب عنه العباد ، ولهذا جعل له الملائكة رصدا حذرا من الشياطين أن تلقي إلى ما ينقله إلى الخلق ويعمل به في نفسه من التكليف الذي جعله الله طريقا إلى سعادة من أمر ونهي (مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً) ، حتى لا يلتبس عليه الإلقاء ، والرصد هم الحرس من الملائكة ، فاختار الله تعالى من الناس الرسل ليبلغوا عن الله ما هو الأمر عليه ، فإنه ما أخرجهم إلا للعلم به ، لأنه أحب أن يعرف إليهم بالرسل بما بعثهم به من كتب وصحف ، فعرفوه معرفة ذاتية ، كما عرفوه بالعقول التي خلق لهم وأعطاها قوة النظر الفكري ، فعرفوه بالدلائل والبراهين معرفة وجودية سلبية ، لم يكن في قوة العقل من استقلاله أكثر من هذا ، ثم بعد ذلك جاءت الرسل من بعده بمعرفة ذاتية ، فعبد الخلق الإله الذي تعرف إليهم بشرعه ، إذ العقل لا يعطي عملا من الأعمال ، ولا قربة من القرب ، ولا صفة ثبوتية للحق ، وما حظ العقل من الشرع مما يستقل به دليله إلا (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) على زيادة الكاف لا على إثباتها صفة ، فاختار الحق تعالى الرسل لتبليغ ما لا يستقل العقل بإدراكه من العلم بذاته ، وبما يقرب إليه من الأعمال والتروك والنسب لذلك قال تعالى :
(لِيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا) (٢٨)
(لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ) فكأنه مستثنى ، منقطع هذا الغيب من ذلك الغيب انقطاعا حقيقيا لا انقطاع جزء من كل ، لما وقع الاشتراك في لفظة الغيب ، لذلك قلنا : مستثنى ، ولما خالفه في الحقيقة قلنا : منقطع ، ولكن بالحال بالذات ، تقول في المتصل : ما في الدار إنسان إلا زيدا ، فهذا المستثنى متصل ، لأنه إنسان قد فارق غيره من الأناسي بحالة كونه في الدار لا بحقيقته ، إذ لم يكن في الدار إلا هو ، فالانقطاع في الحال لا غير ، فإن قلت : ما في الدار إنسان إلا حمارا ، فهذا منقطع بالحقيقة والحال ، فكذلك الغيب الذي يطلع عليه الرسل بالرصد من الملائكة من أجل المردة من الشياطين هو الرسالة التي يبلغونها عن الله ، فإنه لا يحيط من علم غيب الله إلا بما شاء الله ، ولهذا قال (لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا