(وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (٢١)
(وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ) إذا شهدت عليهم (لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا) فتقول الجلود (أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ) فعمت ، فإن الدار الآخرة هي الحيوان ، ينطق فيها كل شيء ، فكانت الجلود أعلم بالأمر ممن جعل النطق فصلا مقوما للإنسان خاصة ، وعرّى غير الإنسان عن مجموع حده في الحيوانية والنطق ، وسميت الجلود بهذا الاسم لما هي عليه من الجلادة ، لأنها تتلقى بذاتها جميع المكاره من جراحة وضرب وحرق وحر وبرد ، وفيها الإحساس ، وهي مجنّ النفس الحيوانية لتلقي هذه المشاق ، فما في الإنسان أشد جلادة من جلده ، ولهذا غشاه الله به ، ولما كانت الجلود شهداء عدول فهي مقبولة القول عند الله ، وكانوا في الدنيا غير راضين بما كانت النفس الناطقة الحيوانية تصرفهم فيه ، زمان حكمها وإمارتها عليهم وعلى جميع جوارحهم ، من سمع وبصر ولسان ويد وبطن وفرج ورجل وقلب ، فأخبر تعالى عن بعض الناس المشهود عليهم أنهم يقولون لجلودهم (لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ) يعني بالشهادة عليكم (الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ) فإن الأصل في الأعيان الصمت ، فكل عين سوى الله خاصة لا نطق لها ، وما من شيء ينطق إلا والله أنطقه ، واختلف المنطوق به ، فثمّ نطق ـ أي منطوق به ـ يتعلق به مديح ، وثمّ منطوق به يتعلق به ذم ، وثمّ منطوق به يتعلق به تجوز لتواطؤ جعله الله في العالم ، وثمّ منطوق به على ما هو المدلول عليه في نفسه ، فهو إخبار عن حقيقة ، وما ثمّ إلا ما ذكرنا ، فنطق المدح شهادة أولي العلم بتوحيد الله ، ونطق الذم قول القائل : (إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ) ، ونطق الحقيقة (وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) ونطق بالتجوز (وَما تَعْمَلُونَ) وما ثمّ قائل إلا الله ، ولا منطق إلا الله ، وما بقي إلا فتح عين الفهم لتنطيق الله ، من حيث أنه لا ينطق إلا بالصواب ، فكل كلام في العالم فهو إما من الحكمة أو من فصل الخطاب ، فالكلام كله معصوم من الخطأ والزلل ، إلا أن للكلام مواطن ومحال وميادين ، له فيها مجال رحب تتسع ميادينه ، بحيث أن تنبو عن إدراك غايتها عيون البصائر ، فيا ولي لا تكن الجلود أعلم بالأمر منك مع دعواك أنك من أهل العقل والاستبصار ، فهذه الجلود علمت نطق كل شيء ، وأن الله منطقه بما شاء ، والجلد من حيث