ولم يكن قط في صورة من تلك الصور مذكورا بهذه الصورة الآدمية العنصرية ، وهذه الآية من أصعب ما نزل في القرآن في حق نقصان الإنسان ، ومساق الآية يؤذن بتقرير النعم عليه ، وقوله تعالى (مَذْكُوراً) وإنما وقعت الصعوبة في هذا الذكر كونه نكرة ، والنكرة تعم في مساق النفي ، فالتنكير يؤذن بتعميم نفي الذكر عنه من كل ذاكر ، وهو دليل على أن الله ما ذكره لما أوجده قبله من الأعيان ، وإن كان مذكورا له في نفسه ، ويعني ذلك أن الإنسان في ذلك الحين موجود في عينه مع وجود الأعيان ، ولكن ما تعرفه حتى تذكره ، ولا هي ذات فكر حتى تجمعه في ذهنها تقديرا فتذكره ، فإن الفكر من القوى التي اختص بها الإنسان لا توجد في غيره ، ثم ذكره تعالى لملائكته برتبته التي خلق لها ، لا باسمه العلم الذي هو آدم ، فقوله تعالى في الإنسان (لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً) لأن الذكر له تعالى ، فحدث الإنسان لما حدث ذكره ـ إشارة ـ لو لا ما نحن ثابتون في العدم ، ما صح أن تحوى علينا خزائن الكرم ، فلنا في العدم شيئية ، غير مرئية ، فقوله (لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً) ، فذلك إذ لم يكن مأمورا ، فقيده بالذكر ، في محكم الذكر.
(إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (٢) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا) (٣)
ـ الوجه الأول ـ (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ) إلى النعم امتنانا إلهيا (إِمَّا شاكِراً) فنزيده منها (وَإِمَّا كَفُوراً) بنعمه فيسلبها عنه ويعذبه على ذلك ـ الوجه الثاني ـ لما تبينت طرق السعادة بالرسل قال تعالى (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ) أي بينا له طريق السعادة والشقاء ، وخلقنا له الإرادة في محله ، فإذا وقع بالاختيار دون الاضطرار والكره نسب إلى من وقع منه نسبة صحيحة ، والتعلق نسبة لا تتصف بالوجود فتكون مخلوقة لأحد ، فتعلقت بأمر ما متعين ، مما يسمى به شاكرا أو كفورا ، فقال تعالى (إِمَّا شاكِراً) فيعمل في السبيل بمقتضاه ، إن كان نهيا انتهى وإن كان أمرا فعل ، (وَإِمَّا كَفُوراً) يقول يستر على نفسه فيخادعون أنفسهم ، فإنه ما ضل أحد إلا على علم ، فإن بيان الحق ليس بعده بيان ، ولا فائدة للبيان إلا حصول العلم ، ثم يستره العالم به عن نفسه لغرض يقوم له ، فتقوم الحجة لله عليه ، فقوله تعالى (إِمَّا شاكِراً