في الأول إلا لعزة قامت بنفس أولئك ، مثل الأقرع بن حابس وغيره ، فقالوا : لو أفرد لنا محمد مجلسا جلسنا إليه ، فإنا نأنف أن نجالس هؤلاء الأعبد ، يعنون بذلك بلالا وخبابا وغيرهما ، فرغب النبي صلىاللهعليهوسلم لحرصه على إيمانهم ولعلمه أنه يرجع لرجوعهم إلى الله بشر كثير ، فأجابهم إلى ما سألوا ، وتصدى إليهم لما حضروا ، وأعرض عن الفقراء ، فانكسرت قلوبهم لذلك ، فأنزل الله ما أنزل جبرا لقلوب الفقراء ، فانكسر الباقي من نفوس أولئك الأغنياء الأعزاء ، وقيل له : (إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ) و (لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ ، وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) ونزل عليه (عَبَسَ وَتَوَلَّى) ومع هذا وقع عليه صلىاللهعليهوسلم العتب من حقيقة أخرى لا من هذه الحقيقة ، فإن الله تعالى ما يريد أن يعامله العبد بمعاملة واحدة في كل شيء ، بل يحمده في المواضع التي تطلب منه المحامد ، ويقبل عليه ، ويعرض عنه في المواضع التي يطلب منه الإعراض عنه فيها ، فلا يتعدى الميزان الذي يطلبه منه ولذلك قال تعالى معلما ومؤدبا لمن عظم صفة الله على غير ميزان.
(أَن جَاءهُ الْأَعْمَى (٢) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى) (٣)
يعني ذلك الجبار ، وأن الله عند المنكسرة قلوبهم ، ـ أصحاب العاهات ـ غيبا ، وهو في الجبابرة المتكبرين ظاهر عينا ، وللظهور حكم أقوى ، وكان صلىاللهعليهوسلم حريصا على الناس أن يؤمنوا بوحدانية الله ، وإزالة العمى الذي كانوا عليه ، ويترجم عن هذا الإعراض منه صلىاللهعليهوسلم لسان الحقيقة ، فإنه صلىاللهعليهوسلم : كان يحب الفأل الحسن ، وبعثه بدعوة الحق ، وإظهار الآيات إنما يظهرها لمن يتصف بأنه يرى ، فلما جاءه الأعمى قام له حقيقة من بعث إليهم وهم أهل الأبصار ، فأعرض وتولى لأنه ما بعث لمثل هذا ، فهذا كان نظره صلىاللهعليهوسلم ، وما عتبه سبحانه فيما علمه ، وإنما عتبه جبرا لقلب ابن أم مكتوم وأمثاله ، لأنهم غائبون عن الذي يشهده صلىاللهعليهوسلم ، وهو أنه لم يشاهد سوى الحق ، فأينما يرى الصفة التي لا تنبغي إلا لله عظّمها ، ولم يشاهد معها سواها ، وقام لها ووفّاها حقها ، مثل العزة والكبرياء والغنى ، فالنبي صلىاللهعليهوسلم ليس له مشهود إلا صفة الحق حيث ظهرت من الأكوان ، فإذا رآها أعمل الحيلة في سلبها عن الكون الذي أخذها على غير ميزانها ، وظهر بها في غير موطنها ، وهو صلىاللهعليهوسلم غيور ، فمن العجب أن المشاهد غنى الحق الذي هو صفته في غنى العالم ، فلا يشاهد