إلا حقا ، ولا يكون القبول والإقبال إلا على صفة حق ، كيف يعتب على ذلك من هو بهذه المثابة؟ فقيل له عندما جاء الجبار الأعمى البصيرة ، تأديبا لنبيه صلىاللهعليهوسلم في ظاهر الأمر ، وهو يؤدبنا به لنتعلم (أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى) فنبهه ببنية الاستفعال ، وهنا ذكر الحق الصفة ولم يذكر الشخص ، والغنا صفة إلهية ، فما حادت عين رسول الله صلىاللهعليهوسلم إلا إلى صفة إلهية ، لتحققه صلىاللهعليهوسلم ، فأراد الحق أن ينبهه على الإحاطة الإلهية ، فلا تقيده صفة عن صفة ، فليس شهوده صلىاللهعليهوسلم لغنا الحق في قوله (اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) بأولى من شهوده صلىاللهعليهوسلم لطلب الحق في قوله (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) وأين مقام الغنا من هذا الطلب؟ فغار عليه سبحانه أن تقيده صفة عن صفة ، فكان صلىاللهعليهوسلم يظهر لأولئك من البشاشة على قدر ما يليق بهم ، ويظهر للأعمى من الفرح به على قدر ما تقع به المصلحة في حق أولئك الجبابرة ، فإن التواضع والبشاشة محبوبة بالذات من كل أحد ، فإنها من مكارم الأخلاق ، وما زال الله يؤدب نبيه صلىاللهعليهوسلم حتى تحقق بالأدب الإلهي فقال [إن الله أدبني فأحسن أدبي] فإن الله له نسبة إلى الأغنياء كما له نسبة إلى الفقراء ، فقال تعالى :
(أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى (٤) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى) (٥)
لأن الغني يعطى الزهو والفخر لما يشاهده من الطالبين رفده ، وسعي الناس في تحصيل مثل ما عنده ، فكان مشهود محمد صلىاللهعليهوسلم الصفة الإلهية ، وهي الغنى ، فتصدى لها لما تعطيه حقيقتها من الشرف ، والنبي في ذلك الوقت في حال الفقر في الدعوة إلى الله ، وأن تعمّ دعوته ، وعلم أن الرؤساء والأغنياء ، تبع الخلق لهم أكثر من تبع من ليس له هذا النعت ، فإذا أسلم من هذه صفته أسلم لإسلامه خلق كثير ، والنبي صلىاللهعليهوسلم له على مثل هذا حرص عظيم ، وقد شهد الله تعالى عندنا له بذلك فقال : (عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ) أي عنادكم يعز عليه للحق المبين (حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ) في أن تسلموا وتنقادوا إلى ما فيه سعادتكم ، وهو الإيمان بالله وما جاء من عند الله ، ومع هذا الحضور النبوي أوقع العتب عليه تعليما لنا ، وإيقاظا له ، فإن الإنسان محل الغفلات ، وهو فقير بالذات ، وقد استحق الجاه والمال أن يستغني بهما من قاما به ، ولذلك قال : (أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى) وما قال : أما من هو غني ؛ فإنه على التحقيق ليس بغني ، بل هو فقير لما استغنى به ، وقد علم الحق أنه لمن تصدى محمد صلىاللهعليهوسلم ،