مقام الرحمة لهم ، ثم استدرجهم قليلا قليلا بمثل (وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) و (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ اللهُ الصَّمَدُ) وقوله : (أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرى) إلى أن تقوت أنوار بصائرهم بالمعرفة بالله ، وأنسوا به قليلا قليلا إلى أن يتجلى لهم في المعرفة التامة النزيهة ، التي لو تجلى لهم فيها في أول الحال لهلكوا من ساعتهم ، فقال عز من قائل (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ) فقبلوه ولم ينفروا منه ، ونسوا حال (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) فكان بقاؤهم في ذلك المقام بقطع اليأس لرفع المناسبة من جميع الوجوه. واعلم أن أعلى المحامد بلا خلاف عقلا وشرعا (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) ، ثم تمم الآية لنعرف المقصود ويصح أول الآية فقال (وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) ، فلو لم يتمم لكان أول الآية يؤذن بأنا لسنا بعبيد وليس هو لنا بإله ، فلابد من رابط وليس إلا الاشتراك ، إلا أنه عين الأصل في ذلك ، ونحن فيه كنسبة الفرع إلى الأصل ، وإن كان على صورته فليس هو عينه ، ونسبتنا إليه أن الوجود له ، وهو الذي استفاده منه المحدث ، فالنسبة التي ورد بها السمع نسبة العبد إلى السيد ، والمخلوق إلى الخالق ، والرب إلى المربوب ، والمقدور إلى القادر ، والمصنوع إلى الصانع ، فهذه الآية له ولنا من أجل الكاف ، والاشتراك يؤذن بالتناسب ، ولو لا المناسبة التي بيننا وبينه تعالى ما وجدنا ولا قبلنا التخلق بالأسماء الإلهية ، وأعظم الحضرات الإلهية أنه لا يشبهه شيء ، فكما انتفت المثلية عنه انتفت المثلية عن العالم وهو كل ما سوى الله ، فلا مثل لله إلا أن يكون إله ، ولا إله إلا الله ، فلا مثل لله ، ولا مثل للعالم إلا أن يكون عالم ، ولا عالم إلا هذا العالم وهو الممكنات ، فلا مثل للعالم ، فصحت المناسبة لا يعلم الحق إلا العلم ، كما لا يحمده إلا الحمد ـ خلاصة التحقيق ـ لا يعلم الحق إلا العلم ، كما لا يحمده إلا الحمد ، وأما أنت فتعلمه بواسطة العلم ، وهو حجابك ، فإنك ما تشاهد إلا العلم القائم بك ، وإن كان مطابقا للمعلوم ، وعلمك قائم بك وهو مشهودك ومعبودك ، فإياك أن تقول إن جريت على أسلوب الحقائق : إنك علمت المعلوم ، وإنما علمت العلم ، والعلم هو العالم بالمعلوم ، وبين العلم والمعلوم بحور لا يدرك قعرها ، فإن سر التعلق بينهما مع تباين الحقائق بحر عسير مركبه ، بل لا تركبه العبارة أصلا ولا الإشارة ، ولكن يدركه الكشف من خلف حجب كثيرة دقيقة ، لا يحس بها أنها على عين بصيرته لرقتها ، وهي عسيرة المدرك ، فأحرى من خلفها ، فانظر أين هو من يقول : إني علمت الشيء من ذلك الشيء؟ محدثا كان أو قديما ، بل ذلك في المحدث ، وأما القديم فأبعد وأبعد ، إذ لا مثل له ، فمن أين يتوصل إلى