الأخرى ما يسوء المجازى عليها ، فهي ليست بسيئة شرعا وإنما هي سيئة من حيث إنها تسوء المجازى بها كالقصاص ، فسمى الله الجزاء سيئة بالمثلية ، وليس الجزاء بسيئة مشروعة ، لأن الله لا يشرع السوء ، فنبه تعالى بقوله : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ) على الزهد والترك للأخذ عليها بتسمية الجزاء سيئة ، فأنزل المسيء منزلة السيئة وسمي بها ، فلم يقل وجزاء المسيء ، فإن المسيء هو الذي يجازى بما أساء لا السيئة ، فإن السيئة قد ذهب عينها ، وهي لا تقبل الجزاء ، وأضيف الجزاء إلى السيئة ، فللمسيء حكم السيئة ، ولذلك نبه تعالى بقوله (مِثْلُها) فأطلق على الجزاء اسم سيئة ، ومن اتصف بشيء من ذلك فيقال فيه : إنه مسيء ، فحث تعالى على اختيار العفو على الجزاء بالمثل نفاسة وتقديس نفس ، من أن توصف بأنها محل للسيئة والسوء ، فقال فيمن لم يفعلها (فَمَنْ عَفا) فنبه على أن ترك الجزاء على السيئة من مكارم الأخلاق ، قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم في الرجل الذي طلب القصاص من قاتل من هو وليه ، فطلب منه رسول الله صلىاللهعليهوسلم أن يعفو عنه أو يقبل الدية فأبى ، فقال : خذه ؛ فأخذه ، فلما قفى قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : [أما إنه إن قتله كان مثله] يريد قوله تعالى : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) فسمي قاتلا ، فبلغ ذلك القول الرجل فرجع إلى النبي صلىاللهعليهوسلم وخلّى عن قتله وتركه وعفا ، (فَمَنْ عَفا) ولم يجاز بالسيئة على السيئة ، أي عفا المظلوم عمن ظلمه ولم يؤاخذه بما استحق عليه فهو أولى (وَأَصْلَحَ) أي عفا عمن أساء إليه وأصلح ، يعني حال من أساء إليه بالإحسان ، فأصلح منه ما كان أوجب الإساءة إليه منه ، فما أراد بأصلح إلا هذا ، ولا يحصل في هذا المقام إلا من له همة عالية ، فإن الله قد أباح له أن يجازي المسيء بإساءته على وزنها ، فأنف على نفسه أن يكون محلا للاتصاف بما سماه الحق سيئة ، ولهذا النوع أجر على الله من وجهين : أجر العفو ـ وأجر العفو من الله كثير فإنه من الأضداد ـ وأجر الإصلاح ، وهو الإحسان إليه ، المزيل لما قام به من الموجب للإساءة إليه ، والله يحب المحسنين ، ولو لم يكن في إحسانه المعبر عنه بالإصلاح إلا حصول حب الله إياه الذي لا يعدله شيء لكان عظيما فيكون أجر من هذا صفته على الله أجر محب لمحبوب ، وكفى بما تعطيه منزلة الحب ، فما يقدر أحد أن يقدر أجر ما يعطيه المحب لمحبوبه ، فقال تعالى : (فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ) وكان ينبغي أن يكون أجره على من تركت مطالبته بجنايته ، فتحمل الله ذلك الأجر عنه إبقاء على المسيء ورحمة به ، فلا يبقى للمظلوم عليه حق يطالبه