أن تزول عن كونك بشرا ، فإنك بشر لذاتك ولو غبت عنك أو فنيت بحال يطرأ عليك ، فبشريتك قائمة العين ، فالستر مسدل ، ولذلك أخطأ من قال : ما دام في بشريته فالكلام له من وراء حجاب ، ولكن إذا خرج عن بشريته ارتفع الحجاب ؛ والخطأ هنا في قوله : ارتفع الحجاب ؛ ولم يقيد ، وإنما يقال : ارتفع حجاب بشريته ، ولا شك أن خلف حجاب بشريته حجبا أخر ، فقد يرتفع حجاب البشرية ويقع الكلام من الله لهذا العبد خلف حجاب آخر ، أعلاها من الحجب ، وأقربها إلى الله ، وأبعدها من المخلوق ، المظاهر الإلهية التي يقع فيها التجلي إذا كانت محدودة معتادة المشاهدة ، كظهور الملك في صورة رجل ، فيكلمه على الاعتدال للعادة والحد ، وقد تجلى له وقد سد الأفق ، فغشي عليه لعدم المعتاد ، وإن وجد الحد ، فكيف بمن لم ير حدا ولا اعتاد؟ فقد تكون المظاهر غير محدودة ولا معتادة ، وقد تكون محدودة لا معتادة ، وقد تكون محدودة معتادة ، ومن هذا نعلم أن الله ما جمع لأحد بين مشاهدته وبين كلامه في حال مشاهدته ، فإنه لا سبيل إلى ذلك إلا أن يكون التجلي الإلهي في صورة مثالية ، فحينئذ يجمع بين المشاهدة والكلام ، ولذلك قال تعالى : (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ) وما زال البشر عن حكم بشريته كمسئلة موسى ، والحجاب عين الصورة التي يناديه منها ، وما يزال البشر عن بشريته وإن فني عن شهودها ، فعين وجودها لا يزول والحد يصحبها ـ مسألة الفرق بين الكلام والقول ـ الكلام ، ما أثر ولا يدخله انقسام ، فإذا دخله الانقسام فهو القول ، وفيه المنة الإلهية والطول ، القرآن كله قال الله ، وما فيه تكلم الله ، وإن كان قد ورد فيه ذكر الكلام ، ولكن تشريفا لموسى عليهالسلام ، ولو جاء بالكلام ما كفر به أحد ، لأنه من الكلم ، فيؤثر فيمن أنكره وجحد ، ألا ترى إلى قوله (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً) كيف سلك به نهجا قويما؟ فأثر فيه كلامه ، وظهرت عليه أحكامه ، فإذا أثر القول ، فما هو لذاته بل هو من الامتنان الإلهي والطول ، ففرّق بين القول والكلام ، تكن من أهل الجلال والإكرام ، كما تفرق بين الوحي والإلهام ، وبين ما يأتي في اليقظة والمنام ، ولما أخبر الحق تعالى نبيه بالمراتب كلها التي تطلبها البشرية من كلام الحق قال له : ـ
(وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ