فعلى هذا يمكن للأشعري التخلص من النقض ، بأن يقول : اني أجزم بصدق القضية الاخبارية الشرعية التي تدل على وجوب العقاب والنار بعد الموت ، وجزمي لهذا لا يتوقف على الاعتراف بالعقل العملي الحاكم بقبح الكذب على الله تعالى ، بل يمكن البرهنة عليه عن طريق العقل النظري ، بقياس صغراه : ان الكذب نقص ، وكبراه : ان النقص مستحيل نظرياً على الواجب تعالى ، فالاثبات العقلي النظري بكلتا المقدمتين تستنتج الجزم بصدق القضية القائلة بوجود العقاب والمخبرة عنه.
وهكذا يحصل الاشعري على قضية جزمية في العقل النظري دالة على العقاب دون توسط العقل العملي ، وهذه القضية الجزمية كافية للمحركية الذاتية في عالم الامتثال. هذا هو الكلام في النقض الاول.
وأما النقض الثاني بتلك المقدمة العقلية المأخوذة من العقل العملي التي بها يكمن برهان النبوة في رأي المتكلمين ، وبدونها لا تكفي المعجزة لاثبات النبوة ، فيتلخص هذا النقض كما عرّفناه في ان العقل العملي لو لم يحكم بقبح اظهار المعجزة على يد الكاذب باعتبار كونه تضليلاً والتضليل قبيح لما انتفى احتمال كذب المدعي حتى بعد اقامة المعجزة ، فيتعذر حينئذٍ على الأشعري المنكر للعقل العملي ان يثبت النبوة.
فالجواب على ذلك اما اولاً : إن نفس هذا الاستدلال الكلامي المعروف المتقوّم بهذه المقدمة العقلية من العقل العملي ، وان كان هو الاستدلال الرسمي لعلم الكلام منذ وجد وحتى الآن ، ولكنه يستبطن بنفسه فرض دليلية المعجزة على النبوة في المرتبة السابقة على المقدمة العقلية التي بها قوام الاستدلال.
بيان ذلك : انه في المرتبة السابقة على ضم المقدمة العقلية القائلة بقبح اظهار المعجزة على يد الكاذب ، وبقطع النظر عن هذه المقدمة ، إما أن تكون المعجزة التي وقعت على يد مدعي النبوة دالة في نفسها على نبوته ، وإما أن لا تكون؟.
فإن فرض ان المعجزة في المرتبة السابقة على ضم المقدمة العقلية دالة على النبوة ، فقد ثبت وجود الدليل على النبوة قبل ضمن المقدمة العقلية وبلا حاجة اليها ،