المدعاة ابتداء ، بل لا بد وأن يكون المقصود الاستدلال بذلك على بداهة الادعاء والادراك ؛ لأن اتفاق العقلاء بما هو اجماع من قبلهم لا يكون دليلاً على حقانية المطلب ابتداءً ، وانما يستدل به مثلاً على كون الادراك بديهياً أي نابعاً من فطرة العقل البشري بتقريب انه موجود في تمام العقلاء مع شدة ما بينهم من اختلافات في الخصوصيات ، فيستكشف من ذلك ان الادراك نشأ من القدر المشترك بين هؤلاء العقلاء ، وهو العقل الأول أو فطرة العقل.
ولكن هذا الاستدلال غير تام ؛ لأن العقلاء جميعاً وفي حدود ما هو المحسوس والمشاهد يتفقون في ظرف عرضي زائداً على الفطرة والعقل الاول ، وهو التلقين والتأديب ، وحينئذٍ فمن يحتمل استناد العقل العملي الى التلقين والتأديب بدلاً عن الفطرة لا يمكن اثبات المطلب له باتفاق العقلاء ، ومن لا يحتمل ذلك فلا حاجة له بهذا التقريب.
والوجه الآخر : ان نفترض شخصاً منفرداً يعيش وحده منذ خلق ، وندفع له ديناراً لقاء ان يخبر خبراً اعم من أن يكون صادقاً أو كاذباً ، فانه سوف يختار الصدق حيث لا توجد له ادنى فائدة من الكذب ، فليس ذلك إلا لإدراكه المدعى في باب العقل العملي ، وهذا الوجه ايضاً اريد الاستدلال به على بديهية الادراك لا على اثبات المدعى ابتداءً ، وكأنه يتمم نقص الوجه الأول باعتبار ان موضوع التجربة فيه انسان لم يلقن ولم يؤدب لفرض عزلته.
إلَّا أنه مشكل اولاً : لأن هذه التجربة مجرد افتراض يعوزها التطبيق لأجل ان نتأكد من صدق الفرض ، وإلَّا فهو فرض يقابله فرض الشيخ الرئيس ابن سينا حيث ذكر بصدد الاستشهاد على عدم واقعية العقل العملي اننا لو فرضنا شخصاً وجد وعاش منفرداً سوف لا يكون مدركاً بعقله ولا بوهمه ولا بحسه الحسن والقبح ، والواقع ان كلا الفرضين لا يفيدنا بحسب الفن شيئاً.
وثانياً : لأنه لو سلم الجزم بصحة هذا الفرض بمجرد افتراضه ، فان تفسير اختيار ذلك الشخص المفروض للصدق لا ينحصر وجهه في ادراك المدعى في