وأما من حيث الاستنتاج فاستدلاله على عدم كون تلك القضايا من الأوليات بعدم كفاية تصور الاطراف في صدور الحكم وإلا لما وقع خلاف في ذلك بين العقلاء مخدوش.
أولاً : لما عرفت سابقاً من امكان انكار الخلاف بين العقلاء ، وذلك لأنه إن اريد به الخلاف بين المجتمعات العقلائية فقد مرّ أن ذلك يرجع الى الاختلاف في تشخيص ما هو الاقوى في باب التزاحم لا في اصل الحسن والقبح ، فليكن دليلاً مثلاً على عدم بديهية مقتضيات التزاحم لا على عدم بديهية اصل العقل العملي ، وان اريد بالخلاف الاشعري فهو خلاف في تحقيق هوية الحسن والقبح من باب الخلط بين الحمل الأولي والحمل الشائع ، لا في اصلهما ، بل قد يستظهر من استدلالهم بالجبر على مدعاهم ان نقاشهم في الصغرى ، لا في كبرى العقل العملي.
ثانياً ، وهو المهم : ان ميزان كون بديهية اولية هو كفاية النفس عند تصور الاطراف في صدور الحكم دون حاجة الى ما وراء ذاتها وقوامها الدراكة ، وفي هذا الملاك للبديهية لا بد من التنبه الى نقطتين ؛ احداهما : ان المراد بكفاية النفس ليس هو العلية التامة ، بل الاقتضاء ، بمعنى ان العقل لو خلي وطبعه لأصدرت النفس حكمها بالقضية ، ولا ينافي ذلك حصول مانع من ناحية تغلب جهة اخرى من جهات النفس على العقل كالهوى والغرض ، لوضوح أن النفس ليست متمحضة في الجهة العقلية ، ففي حال سيطرة جهة اخرى على العقل قد تتوقف النفس عن اصدار الحكم في أوضح القضايا.
والنكتة الأخرى ان القضية البديهية قد لا تدركها النفس إلا لدى وصولها الى مرتبة خاصة من التجوهر والتكامل في صراط الحركة الجوهرية ، وهذا لا ينافي كون القضية بديهية ، لأن المرتبة ليست شيئاً زائداً على النفس في حركتها الجوهرية ، فكما ان العقل بالهيولى يدرك البديهيات حين يصبح بالحركة الجوهرية عقلاً بالملكة ، كذلك قد يدرك مزيداً من البديهيات عند تكامله أكثر وأكثر في سلّم