ثالثا ـ مورد واحد ذكر فيه الحكم المنسوخ في القرآن قد يوهم أنّه ينقض ما ذهبنا إليه :
كان في ما تتبّعنا من موارد الحكم المنسوخ في القرآن الكريم نظير ما ذكرناه ، عدا موردا واحدا قد يقال : انّه يخالف ما قلناه وهو قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ). (المجادلة / ١٢)
فقد قال أكثر العلماء إنّها منسوخة بقوله تعالى : (أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ). (المجادلة / ١٣)
خبر هذا الحكم المؤقت :
كان رسول الله (ص) يوزع كلامه ونظره بين حضّار مجلسه بالسوية ، لا يميز في ذلك أحدا على غيره (١).
كان هذا في ما يملك أمره ، وكان بعضهم يغتصب منه التناجي معه ، يبتغي بذلك الامتياز على الآخرين (٢).
وكان رسول الله (ص) حييّا كريما لا يردّ طلب أحد ، ما لم يكن محرّما شرعا (٣) ، وكان الله ـ سبحانه ـ هو الّذي يؤدّب المسلمين في مثل هذه الحالات ويعلمهم كيف يعاشرون نبيّه (ص) ، مثل قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ ...) (الحجرات / ٢) ، وقوله
__________________
(١) السيرة الحلبية عند ذكر كرائم أخلاق رسول الله (ص) في باب يذكر فيه صفته (ص).
(٢) فحوى الأحاديث بتفسير الآية في تفسير الطبري ٢٨ / ١٥ ؛ والسيوطي ٦ / ١٨٥.
(٣) السيرة الحلبية ٣ / ٣٣٩.