[٨ ـ ٩] ثم قال تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ) ، إلى : (تُحْشَرُونَ). النجوى هي : التناجي بين اثنين فأكثر ، وقد تكون في الخير ، وتكون في الشر. فأمر الله المؤمنين أن يتناجوا بالبر ، وهو : اسم جامع لكل خير وطاعة ، وقيام بحق الله ، وحق عباده ، والتقوى ، وهي ـ هنا ـ : اسم جامع لترك جميع المحارم والمآثم. فالمؤمن يمتثل هذا الأمر الإلهي ، فلا تجده مناجيا ومتحدثا ، إلا بما يقربه إلى الله ، ويباعده من سخطه. والفاجر يتهاون بأمر الله ويناجي بالإثم والعدوان ، ومعصية الرسول ، كالمنافقين الّذين هذا دأبهم وحالهم مع الرسول صلىاللهعليهوسلم. قال تعالى : (وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللهُ) ، أي : يسيئون الأدب في تحيتهم لك. (وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ) ، أي : يسرون فيها ما ذكر عالم الغيب والشهادة عنهم ، وهو قولهم : (لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللهُ بِما نَقُولُ). ومعنى ذلك أنهم يتهاونون بذلك ، ويستدلون بعدم تعجيل العقوبة عليهم ، أن ما يقولونه غير محذور. وقال تعالى في بيان أنه يمهل ولا يهمل : (حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ) ، أي : تكفيهم جهنم ، الّتي جمعت كلّ عذاب وشقاء عليهم ، تحيط بهم ، ويعذبون بها (فَبِئْسَ الْمَصِيرُ) ، أي : المرجع والمآل : جهنم. وهؤلاء المذكورون إما أناس من المنافقين ، يظهرون الإيمان ، ويخاطبون الرسول صلىاللهعليهوسلم بهذا الخطاب الذي يوهمون أنهم أرادوا به خيرا ، وهم كذبة في ذلك ، وإما أناس من أهل الكتاب ، الّذين سلموا على رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وقالوا : «السام عليك يا محمد» يعنون : الموت.
[١٠] يقول تعالى : (إِنَّمَا النَّجْوى) ، أي : تناجي أعداء المؤمنين بالمؤمنين ، بالمكر والخديعة وطلب السوء ، (مِنَ الشَّيْطانِ) ، الذي كيده ضعيف. (لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا) ، هذا غاية هذا المكر ومقصوده. (وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) فإن الله وعد المؤمنين بالكفاية ، والنصر على الأعداء ، وقال تعالى : (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ). فأعداء الله ورسوله والمؤمنين ، مهما تناجوا ومكروا فإن ضرر ذلك عائد إلى أنفسهم ، ولا يضر المؤمنين إلا شيء قدره الله وقضاه. (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) ، أي : ليعتمدوا عليه ، ويثقوا بوعده ، فإن من توكل على الله كفاه كيد الأعداء ، وكفاه أمر دينه ودنياه.
[١١] هذا أدب من الله لعباده ، إذا اجتمعوا في مجلس من مجالس مجتمعاتهم ، واحتاج بعضهم ، أو بعض القادمين للتفسح له في المجلس ، فإن من الأدب أن يفسحوا له تحصيلا لهذا المقصود. وليس ذلك بضار للفاسح شيئا ، فيحصل مقصود أخيه من غير ضرر يلحقه ، والجزاء من جنس العمل ، فإن من فسح لأخيه ، فسح الله له ، ومن وسع لأخيه ، وسع الله عليه. (وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا) ، أي : ارتفعوا وتنحوا عن مجالسكم ، لحاجة تعرض. (فَانْشُزُوا) أي : فبادورا للقيام لتحصيل تلك المصلحة. فإن القيام بمثل هذه الأمور من العلم والإيمان ، والله تعالى يرفع أهل العلم والإيمان ، درجات بحسب ما خصهم به من العلم والإيمان. (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) فيجازي كل عامل بعمله ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر. وفي هذه الآية فضيلة العلم وأن زينته وثمرته التأدب بآدابه ، والعمل بمقتضاه.