فيه القوة والدفاع. ولهذا قال : (فَأَتاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا) ، أي : من الأمر والباب ، الذي لم يخطر ببالهم ، أن يؤتوا منه. وهو أنه تعالى (قَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ) وهو الخوف الشديد ، الذي هو جند الله الأكبر ، الذي لا ينفع معه عدد ولا عدة ، ولا قوة ولا شدة. فالأمر الذي يحتسبونه ويظنون أن الخلل يدخل عليهم منه إن دخل ، هو الحصون الّتي تحصنوا بها ، واطمأنت نفوسهم إليها ، ومن وثق بغير الله فهو مخذول ، ومن ركن إلى غير الله ، كان وبالا عليه. فأتاهم أمر سماوي ، نزل على قلوبهم ، الّتي هي محل الثبات والصبر ، أو الخور والضعف ، فأزال قوتها وشدتها ، وأورثها ضعفا وخورا وجبنا ، لا حيلة لهم في دفعه ، فصار ذلك عونا عليهم ، ولهذا قال : (يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ) ، وذلك أنهم صالحوا النبي صلىاللهعليهوسلم على أن لهم ما حملت الإبل. فنقضوا لذلك كثيرا من سقوفهم ، الّتي استحسنوها ، وسلطوا المؤمنين ، بسبب بغيهم على إخراب ديارهم ، وهدم حصونهم ، فهم الّذين جنوا على أنفسهم ، وصاروا أكبر عون عليها. (فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ) ، أي : البصائر النافذة ، والعقول الكاملة ، فإن في هذا معتبرا يعرف به صنع الله في المعاندين للحق ، المتبعين لأهوائهم ، الّذين لم تنفعهم عزتهم ، ولا منعتهم قوتهم ، ولا حصنتهم حصونهم ، حين جاءهم أمر الله ، فوصل إليهم النكال بذنوبهم ، والعبرة بعموم المعنى ، لا بخصوص السبب. فإن هذه الآية ، تدل على الأمر بالاعتبار ، وهو اعتبار النظير بنظيره ، وقياس الشيء على ما يشابهه ، والتفكر فيما تضمنته الأحكام ، من المعاني والحكم ، الّتي هي محل العقل والفكرة ، وبذلك يكمل العقل ، وتتنور البصيرة ، ويزداد الإيمان ، ويحصل الفهم الحقيقي.
[٣] ثمّ أخبر تعالى أن هؤلاء اليهود لم يصبهم جميع ما يستحقون من العقوبة ، وأن الله خفف عنهم. (وَلَوْ لا أَنْ كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ) الذي أصابهم وقضاه عليهم ، بقدره الذي لا يبدل ولا يغير ، لكان لهم شأن آخر من عذاب الدنيا ونكالها. ولكنهم ـ وإن فاتهم العذاب الشديد الدنيوي ـ فإن لهم في الآخرة عذاب النار ، الذي لا يمكن أن يعلم شدته إلا الله. فلا يخطر ببالهم أن عقوبتهم انقضت وفرغت ولم يبق لهم منها بقية ، فما أعدّ الله لهم من العذاب في الآخرة أعظم وأطمّ.
[٤] (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ) وعادوهما وحاربوهما ، وسعوا في معصيتهما ، وهذه سنته وعادته فيمن شاقه (وَمَنْ يُشَاقِّ اللهَ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ).
[٥] ولما لام بنو النضير رسول الله صلىاللهعليهوسلم والمسلمين في قطع النخيل والأشجار ، وزعموا أن ذلك من الفساد ، وتوصلوا بذلك إلى الطعن بالمسلمين ، أخبر تعالى أن قطع النخيل إن قطعوه أو إبقاءهم إياه ، إن أبقوه (فَبِإِذْنِ اللهِ) وأمره (وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ) حيث سلطكم على قطع نخلهم وتحريقها ، ليكون ذلك نكالا لهم ، وخزيا في الدنيا ، وذلا يعرف به عجزهم التام ، الذي ما قدروا على استنقاذ نخلهم الذي هو مادة قوتهم. واللينة : تشمل النخيل كله ، على أصح الاحتمالات وأولاها ، فهذه حال بني النضير ، وكيف عاقبهم الله في الدنيا.
[٦] ثمّ ذكر من انتقلت إليه أموالهم وأمتعتهم ، فقال : (وَما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ) ، أي : من أهل هذه