إيمانهم ، وصدقوا إيمانهم بأعمالهم الصالحة ، والعبادات الشاقة ، بخلاف من ادعى الإيمان ، وهو لم يصدقه بالجهاد والهجرة وغيرهما من العبادات ، وبين أنصارهم الأوس والخزرج الّذين آمنوا بالله ورسوله طوعا ومحبة واختيارا وآووا رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، ومنعوه من الأحمر والأسود ، وتبوأوا دار الهجرة والإيمان حتى صارت موئلا ومرجعا يرجع إليه المؤمنون ، ويلجأ إليه المهاجرون ، ويسكن بحماه المسلمون إذ كانت البلدان كلها بلدان حرب وشرك وشر. فلم يزل أنصار الدين يأوون إلى الأنصار ، حتى انتشر الإسلام ، وقوي ، وجعل يزداد شيئا فشيئا ، حتى فتحوا القلوب بالعلم والإيمان والقرآن ، والبلدان بالسيف والسنان. الّذين من جملة أوصافهم الجميلة أنهم (يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ) ، وهذا لمحبتهم لله ورسوله ، أحبوا أحبابه ، وأحبوا من نصر دينه. (وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا) ، أي : لا يحسدون المهاجرين على ما آتاهم الله من فضله ، وخصهم به ، من الفضائل والمناقب ، الّتي هم أهلها ، وهذا يدل على سلامة صدورهم ، وانتفاء الغل والحقد والحسد عنها. ويدل ذلك على أن المهاجرين أفضل من الأنصار ، لأن الله قدمهم بالذكر ، وأخبر أن الأنصار لا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ، فدل على أن الله تعالى ، آتاهم ما لم يؤت الأنصار ولا غيرهم ، ولأنهم جمعوا بين النصرة والهجرة. وقوله : (وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ) ، أي : ومن أوصاف الأنصار الّتي فاقوا بها غيرهم ، وتميزوا بها عمن سواهم ، الإيثار ، وهو أكمل أنواع الجود ، وهو الإيثار بمحاب النفس ، من الأموال وغيرها ، وبذلها للغير مع الحاجة إليها ، بل مع الضرورة والخصاصة. وهذا لا يكون إلا من خلق زكي ، ومحبة لله تعالى ، مقدمة على شهوات النفس ولذاتها ، ومن ذلك قصة الأنصاري الذي نزلت الآية بسببه ، حين آثر ضيفه بطعامه ، وطعام أهله وأولاده ، وباتوا جياعا. والإيثار عكسه الأثرة ، فالإيثار محمود ، والأثرة مذمومة ، لأنها من خصال البخل والشح. ومن رزق الإيثار ، فقد وقي شح نفسه (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) ، ووقاية شح النفس ، يشمل وقايتها الشح ، في جميع ما أمر به ، فإنه إذا وقي العبد شحّ نفسه ، سمحت نفسه بأوامر الله ورسوله ، ففعلها طائعا منقادا ، منشرحا بها صدره ، وسمحت نفسه بترك ما نهى الله عنه ، وإن كان محبوبا للنفس ، تدعو إليه وتتطلع إليه. وسمحت نفسه ببذل الأموال في سبيل الله ، وابتغاء مرضاته ، وبذلك يحصل الفلاح والفوز. بخلاف من لم يوق شح نفسه ، بل ابتلي بالشح بالخير ، الذي هو أصل الشر ومادته. فهذان الصنفان الفاضلان الزكيان ، هم الصحابة الكرام ، والأئمة الأعلام ، الّذين حازوا من السوابق والفضائل والمناقب ، ما سبقوا به من بعدهم ، وأدركوا به من قبلهم ، فصاروا أعيان المؤمنين ، وسادات المسلمين ، وقادات المتقين.
[١٠]؟؟؟ من الفضل أن يسير خلفهم ، ويأتم بهداهم ، ولهذا ذكر الله من اللاحقين ، من هو مؤتم بهم ، فقال : (وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ) ، أي : من بعد المهاجرين والأنصار (يَقُولُونَ) على وجه النصح لأنفسهم ولسائر المؤمنين ، (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ). وهذا دعاء شامل لجميع المؤمنين ، من السابقين ، من الصحابة ، ومن قبلهم ومن بعدهم ، وهذا من فضائل الإيمان أن المؤمنين ينتفع بعضهم ببعض ، ويدعو بعضهم لبعض ، بسبب المشاركة في الإيمان ، المقتضي لعقد الأخوة بين المؤمنين الّتي من فروعها أن يدعو بعضهم لبعض ، وأن يحب بعضهم بعضا. ولهذا ذكر الله في هذا الدعاء ، نفي الغل عن القلب ، الشامل لقليله وكثيره ، الذي إذا انتفى ثبت ضده ، وهو : المحبة بين المؤمنين والموالاة والنصح ، ونحو ذلك مما هو من حقوق المؤمنين. فوصف الله من بعد الصحابة بالإيمان ، لأن قولهم : (سَبَقُونا بِالْإِيمانِ) دليل على المشاركة فيه ، وأنهم تابعون للصحابة في عقائد الإيمان وأصوله ، وهم أهل السنة والجماعة ، الّذين لا يصدق هذا الوصف التام إلا عليهم. ووصفهم بالإقرار بالذنوب. والاستغفار منها ، واستغفار بعضهم لبعض ، واجتهادهم في إزالة الغل والحقد لإخوانهم المؤمنين لأن دعاءهم بذلك ، مستلزم لما ذكرنا ، ومتضمن لمحبة بعضهم بعضا ، وأن يحب أحدهم لأخيه ما