هؤلاء ـ يعني المهاجرين ـ إلّا كما قال القائل : (سمّن كلبك يأكلك). وقال : لئن رجعنا إلى المدينة (لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَ) بزعمه أنه هو وإخوانه المنافقين ، الأعزون ، وأن رسول الله ، ومن اتبعه هم الأذلون ، والأمر بعكس ما قال هذا المنافق. فلهذا قال تعالى : (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) فهم الأعزاء ، والمنافقون وإخوانهم من الكفار ، هم الأذلاء. (وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ) ذلك ، فلذلك زعموا أنهم الأعزاء ، اغترارا بما هم عليه من الباطل.
[٩] ثمّ قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) إلى : (بِما تَعْمَلُونَ). يأمر تعالى عباده المؤمنين بالإكثار من ذكره ، فإن في ذلك ، الربح والفلاح ، والخيرات الكثيرة ، وينهاهم أن تشغلهم أموالهم وأولادهم عن ذكره ، فإن محبة المال والأولاد مجبولة عليها أكثر النفوس ، فتقدمها على محبة الله ، وفي ذلك الخسارة العظيمة ، ولهذا قال تعالى : (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ) ، أي : يلهه ماله وولده ، عن ذكر الله (فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) للسعادة الأبدية ، والنعيم المقيم ، لأنهم آثروا ما يفنى على ما يبقى. قال تعالى : (إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) (١٥).
[١٠] وقوله : (وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ) يدخل في هذا ، النفقات الواجبة ، من الزكاة والكفارات ، ونفقة الزوجات ، والمماليك ، ونحو ذلك ، والنفقات المستحبة كبذل المال في جميع المصالح. وقال : (مِمَّا رَزَقْناكُمْ) ليدل ذلك على أنه تعالى ، لم يكلف العباد من النفقة ما يعنتهم ويشق عليهم ، بل أمرهم بإخراج جزء مما رزقهم ، ويسره ، ويسر أسبابه. فليشكروا الذي أعطاهم ، بمواساة إخوانهم المحتاجين ، وليبادروا بذلك الموت الذي إذا جاء ، لم يمكّن العبد أن يأتي بمثقال ذرة من الخير ، ولهذا قال : (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ) متحسرا على ما فرّط في وقت الإمكان ، سائلا الرجعة الّتي هي محال : (رَبِّ لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ) ، أي : لأتدارك ما فرّطت فيه. (فَأَصَّدَّقَ) من مالي ، ما به أنجو من العذاب ، وأستحق جزيل الثواب. (وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ) بأداء المأمورات كلها ، واجتناب المنهيات ، ويدخل في هذا ، الحج وغيره.
[١١] وهذا السؤال والتمني ، قد فات وقته ، ولا يمكن تداركه ، ولهذا قال : (وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها) المحتوم لها (وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) من خير وشر ، فيجازيكم على ما علمه ، من النيات والأعمال.
تفسير سورة التغابن
(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
[١] هذه الآيات الكريمات ، مشتملات على جملة كثيرة واسعة ، من أوصاف الباري العظيمة ، فذكر كمال