توحيده ، ولهذا قال :
[١٢] (لِنَجْعَلَها) ، أي : الجارية ، والمراد جنسها (تَذْكِرَةً) تذكّركم أول سفينة صنعت ، وما قصتها ، وكيف نجى الله عليها من آمن به ، واتبع رسوله ، وأهلك أهل الأرض كلها ، فإن جنس الشيء مذكّر بأصله. وقوله : (وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ) أي : يعقلها أولو الألباب ، ويعرفون المقصود منها ووجه الآية بها. وهذا ، بخلاف أهل الإعراض والغفلة ، وأهل البلادة وعدم الفطنة ، فإنهم ليس لهم انتفاع بآيات الله ، لعدم وعيهم عن الله ، وتفكرهم بآياته.
[١٣] لما ذكر تعالى ما فعله بالمكذبين لرسله ، وكيف جازاهم ، وعجل لهم العقوبة في الدنيا ، وأن الله نجّى الرسل وأتباعهم ، كان هذا مقدمة للجزاء الأخروي ، وتوفية الأعمال كاملة يوم القيامة. فذكر الأمور الهائلة الّتي تقع أمام يوم القيامة ، وأن أول ذلك أنه ينفخ إسرافيل (فِي الصُّورِ) إذا تكاملت الأجساد نابتة. (نَفْخَةٌ واحِدَةٌ) فخرجت الأرواح ، فتدخل كلّ روح في جسدها ، فإذا الناس قيام لرب العالمين.
[١٤] (وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً) (١٤) ، أي : فتتت الجبال ، واضمحلت ، وخلطت بالأرض ، ونسفت عليها ، فكان الجميع قاعا صفصفا ، لا ترى فيها عوجا ولا أمتا ، هذا ما يصنع بالأرض وما عليها.
[١٦] وأما ما يصنع بالسماء ، فإنها تضطرب وتمور وتشقق ويتغير لونها ، وتهي بعد تلك الصلابة والقوة العظيمة ، وما ذاك إلا لأمر عظيم أزعجها ، وكرب جسيم هائل ، أوهاها وأضعفها.
[١٧] (وَالْمَلَكُ) ، أي : الملائكة الكرام (عَلى أَرْجائِها) ، أي : على جوانب السماء وأركانها ، خاضعين لربهم ، مستكينين لعظمته. (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ) أملاك في غاية القوة ، إذا أتى للفصل بين العباد والقضاء بينهم ، بعدله وقسطه وفضله.
[١٨] ولهذا قال : (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ) على الله (لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ) لا من أجسادكم وذواتكم ، ولا من أعمالكم وصفاتكم ، فإن الله تعالى عالم الغيب والشهادة. ويحشر العباد حفاة ، عراة ، غرلا ، في أرض مستوية ، يسمعهم الداعي وينفذهم البصر ، فحينئذ يجازيهم بما عملوا.
[١٩] ولهذا ذكر كيفية الجزاء ، فقال : (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ) إلى : (الْخالِيَةِ). وهؤلاء هم أهل السعادة ، يعطون كتبهم الّتي فيها أعمالهم الصالحة بأيمانهم ، تمييزا لهم ، وتنويها بشأنهم ، ورفعا لمقدارهم. ويقول أحدهم عند ذلك من الفرح والسرور ، ومحبة أن يطلع الخلق على ما منّ الله عليه به من الكرامة : (هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ) ، أي : دونكم كتابي ، فاقرأوه ، فإنه يبشر بالجنات ، وأنواع الكرامات ، ومغفرة الذنوب ، وستر العيوب. والذي أوصلني إلى هذه الحال ، ما منّ الله به عليّ من الإيمان بالبعث والحساب ، والاستعداد له ، بالممكن من العلم ، ولهذا قال :
[٢٠] (إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ) (٢٠) ، أي : أيقنت ، فالظن ـ هنا ـ بمعنى اليقين.
[٢١] (فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ) (٢١) ، أي : جامعة لما تشتهيه الأنفس ، وتلذ الأعين ، وقد رضوها ، ولم يختاروا عليها غيرها.
[٢٢] (فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ) (٢٢) المنازل والقصور ، عالية المحل.
[٢٣] (قُطُوفُها دانِيَةٌ) (٢٣) ، أي : ثمرها وجناها ، من أنواع الفواكه ، قريبة ، سهلة التناول على أهلها ، ينالها أهلها ، قياما وقعودا ومتكئين.
[٢٤] ويقول لهم إكراما : (كُلُوا وَاشْرَبُوا) ، أي : من كل