إصابة الصواب فيها ، وحصول السداد ، ولأنه كمل نفسه بهذا الخير العظيم ، واستعد لنفع الخلق أعظم نفع ، في دينهم ودنياهم. وجميع الأمور لا تصلح إلا بالحكمة ، التي هي وضع الأشياء في مواضعها ، وتنزيل الأمور منازلها ، والإقدام في محل الإقدام والإحجام في موضع الإحجام. ولكن ما يتذكر هذا الأمر العظيم ، وما يعرف قدر هذا العطاء الجسيم (إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ) وهم أهل العقول الوافية ، والأحلام الكاملة ، فهم الذين يعرفون النافع فيعملونه ، والضار فيتركونه. وهذان الأمران ، وهما بذل النفقات المالية ، وبذل الحكمة العلمية ، أفضل ما تقرب به المتقربون إلى الله ، وأعلى ما وصلوا به إلى أجلّ الكرامات. وهما اللذان ذكرهما النبي صلىاللهعليهوسلم بقوله : «لا حسد إلا في اثنتين ، رجل آتاه الله مالا فسلّطه على هلكته في الحق ، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يعلمها الناس».
[٢٧٠] يخبر تعالى ، أنه مهما أنفق المنفقون أو تصدق المتصدقون ، أو نذر الناذرون ، فإن الله يعلم ذلك. ومضمون الإخبار بعلمه ، يدل على الجزاء ، وأن الله لا يضيع عنده مثقال ذرة ، ويعلم ما صدرت عنه ، من نيات صالحة ، أو سيئة ، وأن الظالمين الذين يمنعون ما أوجب الله عليهم ، أو يقتحمون ما حرم عليهم ، ليس من دونهم أنصار ، ينصرونهم ويمنعونهم ، وأنه لا بد أن تقع بهم العقوبات.
[٢٧١] وأخبر أن الصدقة إن أبداها المتصدق ، فهي خير ، وإن أخفاها ، وسلمها للفقير ، كان أفضل ، لأن الإخفاء على الفقير ، إحسان آخر. وأيضا فإنه يدل على قوة الإخلاص ، وأحد السبعة الذين يظلهم الله في ظله : «من تصدق بصدقة فأخفاها ، حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه». وفي قوله : (وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) فائدة لطيفة ، وهو أن إخفاءها خير من إظهارها ، إذا أعطيت للفقير. فأما إذا صرفت في مشروع خيري ، لم يكن في الآية ، ما يدل على فضيلة إخفائها ، بل هنا قواعد الشرع ، تدل على مراعاة المصلحة ، فربما كان الإظهار خيرا ، لحصول الأسوة والاقتداء ، وتنشيط النفوس على أعمال الخير. وقوله : (وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ) في هذا : أن الصدقات يجتمع فيها الأمران : حصول الخير ، وهو كثرة الحسنات والثواب والأجر ، ودفع الشر والبلاء الدنيوي والأخروي ، بتكفير السيئات. (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) ، فيجازي كلا بعمله ، بحسب حكمته.
[٢٧٢] أي : إنما عليك ـ أيها الرسول ـ البلاغ ، وحث الناس على الخير ، وزجرهم عن الشر ، وأما الهداية ، فبيد الله تعالى. ويخبرهم عن المؤمنين حقا ، أنهم لا ينفقون إلا لطلب مرضاة ربهم ، واحتساب ثوابه ، لأن إيمانهم يدعوهم إلى ذلك ، فهذا خير وتزكية للمؤمنين ، ويتضمن التذكير لهم بالإخلاص. وكرر علمه ـ تعالى ـ بنفقاتهم ، لإعلامهم أنه لا يضيع عنده مثقال ذرة : (وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً).
[٢٧٣] يعني أنه ينبغي أن تتحروا بصدقاتكم الفقراء ، الذين حبسوا أنفسهم في سبيل الله ، وعلى طاعته ، وليس لهم إرادة في الاكتساب ، أو ليس لهم قدرة عليه ، وهم يتعففون ، إذا رآهم الجاهل ظن أنهم أغنياء (لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً) ، فهم لا يسألون بالكلية ، وإن سألوا اضطرارا ، لم يلحفوا في السؤال. فهذا الصنف من