[٣١] هذه الآية هي الميزان ، التي يعرف بها من أحب الله حقيقة ، ومن ادعى ذلك دعوى مجردة ، فعلامة محبة الله ، اتباع محمد صلىاللهعليهوسلم ، الذي جعل متابعته وجميع ما يدعو إليه ، طريقا إلى محبته ورضوانه ، فلا تنال محبة الله ورضوانه وثوابه ، إلا بتصديق ما جاء به الرسول من الكتاب والسنة وامتثال أمرهما ، واجتناب نهيهما. فمن فعل ذلك ، أحبه الله ، وجازاه جزاء المحبين ، وغفر له ذنوبه ، وستر عليه عيوبه ، فكأنه قيل : ومع ذلك ، فما حقيقة اتباع الرسول وصفتها؟
[٣٢] فأجاب بقوله : (قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ) بامتثال الأمر ، واجتناب النهي ، وتصديق الخبر ، (فَإِنْ تَوَلَّوْا) عن ذلك ، فهذا هو الكفر ، والله (لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ).
[٣٣] لله تعالى من عباده أصفياء ، يصطفيهم ويختارهم ، ويمن عليهم بالفضائل العالية ، والنعوت السامية ، والعلوم النافعة ، والأعمال الصالحة ، والخصائص المتنوعة ، فذكر هذه البيوت الكبار ، وما احتوت عليه من كملة الرجال ، الذين حازوا أوصاف الكمال ، وأن الفضل والخير ، تسلسل في ذراريهم وشمل ذكورهم ونساءهم ، وهذا من أجلّ مننه وأفضل مواقع جوده وكرمه. (وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) يعلم من يستحق الفضل والتفضيل ، فيضع فضله حيث اقتضت حكمته.
[٣٥ ـ ٣٦] فلما قرر عظمة هذه البيوت ، ذكر قصة مريم وابنها عيسى صلىاللهعليهوسلم ، وكيف تسلسلا من هذه البيوت الفاضلة ، وكيف تنقلت بهما الأحوال ، من ابتداء أمرهما إلى آخره ، وأن امرأة عمران ، قالت ـ متضرعة إلى ربها ، متقربة إليه بهذه القربة التي يحبها ، التي فيها تعظيم بيته وملازمة طاعته ـ : (إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً) ، أي : خادما لبيت العبادة ، المشحون بالمتعبدين. (فَتَقَبَّلْ مِنِّي) هذا العمل ، أي : اجعله مؤسسا على الإيمان والإخلاص ، مثمرا للخير والثواب ، (إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى). كان في هذا الكلام ، نوع تضرع منها ، وانكسار نفس حيث كان نذرها بناء على أنه يكون ذكرا ، يحصل منه من القوة والخدمة والقيام بذلك ، ما يحصل من أهل القوة ، والأنثى بخلاف ذلك ، فجبر الله قلبها ، وتقبل الله نذرها ، وصارت هذه الأنثى ، أكمل وأتم من كثير من الذكور ، بل من أكثرهم ، وحصل بها من المقاصد ، أعظم مما يحصل بالذكر ، ولهذا قال : (فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً) ، أي : ربيت تربية عجيبة ، دينية ، أخلاقية ، أدبية ، كملت بها أحوالها ، وصلحت بها أقوالها وأفعالها ، ونما فيها كمالها ، ويسر الله لها زكريا كافلا. وهذا من منة الله على العبد ، أن يجعل من يتولى تربيته من الكاملين المصلحين.
[٣٨ ـ ٣٩] ثم إن الله تعالى أكرم مريم وزكريا ، حيث يسر لمريم من الرزق الحاصل بلا كد ولا تعب ، وإنما هو كرامة أكرمها الله به. إذ (كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ) وهو محل العبادة ، وفيه إشارة إلى كثرة صلاتها وملازمتها لمحرابها ، (وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً) هنيئا معدا. (قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ). فلما رأى زكريا هذه الحال ، والبر واللطف من الله بها ، ذكره أن يسأل الله تعالى حصول الولد ، على حين اليأس منه ، فقال : (رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللهَ