تكميل الخلق ، والسعي في منافعهم ، بحسب الإمكان ، وبين تكميل النفس بالإيمان بالله ، والقيام بحقوق الإيمان. وأن أهل الكتاب ، لو آمنوا بمثل ما آمنتم به ، لاهتدوا وكان خيرا لهم ، ولكن لم يؤمن منهم إلا القليل ، وأما الكثير ، فهم فاسقون ، خارجون عن طاعة الله ، وطاعة رسوله ، محاربون للمؤمنين ، ساعون في إضرارهم بكل مقدورهم ، ومع ذلك ، فلن يضروا المؤمنين إلا أذى باللسان ، وإلا فلو قاتلوهم ، لولوا الأدبار ، ثم لا ينصرون. وقد وقع ما أخبر الله به ، فإنهم لما قاتلوا المسلمين ، ولوا الأدبار ، ونصر الله المسلمين عليهم.
[١١٢] هذا إخبار من الله تعالى أن اليهود ضربت عليهم الذلة ، فهم خائفون أينما ثقفوا ، ولا يؤمنهم شيء إلا معاهدة ، وسبب يأمنون به ، يرضخون لأحكام الإسلام ، ويعترفون بالجزية. أو (حَبْلٍ مِنَ النَّاسِ) ، أي : إذا كانوا تحت ولاية غيرهم ونظارتهم ، كما شوهد حالهم سابقا ولا حقا ، فإنهم لم يتمكنوا في الوقت الأخير من الملك المؤقت في فلسطين ، إلا بنصر الدول الكبرى ، وتمهيدها لهم كل سبب. (وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ) ، أي : قد غضب الله عليهم ، وعاقبهم بالذلة والمسكنة ، والسبب في ذلك كفرهم بآيات الله ، وقتلهم الأنبياء بغير حق ، أي : ليس ذلك عن جهل ، وإنما هو بغي وعناد. تلك العقوبات المتنوعة عليهم (بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ) ، فالله تعالى لم يظلمهم ويعاقبهم بغير ذنب ، وإنما الذي أجراه عليهم بسبب بغيهم وعدوانهم ، وكفرهم وتكذيبهم للرسل ، وجناياتهم الفظيعة.
[١١٣ ـ ١١٥] لما ذكر الله المنحرفين من أهل الكتاب ، بيّن حالة المستقيمين منهم ، وأن منهم أمة مقيمين لأصول الدين وفروعه. (يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ) ، وهو الخير كله ، وينهون عن المنكر وهو جميع الشر. كما قال تعالى : (وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) (١٥٩). و (يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ) والمسارعة إلى الخيرات ، قدر زائد على مجرد فعلها ، فهو وصف لهم بفعل الخيرات ، والمبادرة إليها ، وتكميلها بكل ما تم به من واجب ومستحب. ثم بين تعالى أن كل ما فعلوه ، من خير قليل أو كثير ، فإن الله سيقبله ، حيث كان صادرا عن إيمان وإخلاص ، (فَلَنْ يُكْفَرُوهُ) ، يعني : لن ينكر ما عملوه ، ولن يهدر. (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ) ، وهم الذين قاموا بالخيرات ، وتركوا المحرمات ، لقصد رضا الله ، وطلب ثوابه.
[١١٦ ـ ١١٧] بيّن تعالى : أن الكفار ، والذين كفروا بآيات الله ، وكذبوا رسله ، أنه لا ينقذهم من عذاب الله منقذ ، ولا ينفعهم نافع ، ولا يشفع لهم عند الله شافع ، وأن أموالهم وأولادهم ، التي كانوا يعدونها للشدائد والمكاره ، لا تفيدهم شيئا ، وأن نفقاتهم التي أنفقوها في الدنيا ، لنصر باطلهم ، ستضمحل. وأن مثلها (كَمَثَلِ) حرث أصابته (رِيحٍ) شديدة (فِيها صِرٌّ) ، أي : برد شديد ، أو نار محرقة ، فأهلكت ذلك الحرث ، وذلك بظلمهم فلم يظلمهم الله ويعاقبهم بغير ذنب ، وإنما ظلموا أنفسهم. وهذه كقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ).